المنتخب من التفسير -الحلقة 242- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (242)

[سورة النساء:64-65]

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾[النساء:64]

(بِإِذْنِ اللهِ) بأمرِ الله، والمعنى أنّ الحكمة مِن إرسال الرسلِ، أنْ ينقادَ إليهم الناسُ ويطيعوهم؛ ليخرجوهم من الظلماتِ إلى النورِ، فلم يرسل الرسل إلا لذلكَ، ومن لم يطعْهم فلا يظلم إلَّا نفسَه، وليس له عند الله حجةٌ، قال تعالى: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)([1])، وفي تقييد الطاعة أنَّها لا تكونُ إلا بإذنِ الله، إشارةٌ إلى أنّ طاعةَ الرسولِ مِن طاعةِ اللهِ، وإرشادٌ إلى الإخلاصِ في التوجه إلى اللهِ لمن أرادَ الهدايةِ، فمَن لم يحسنْ ذلك حُرمَ التوفيق.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ) ظلموها بفعلِ ما استوجبَ كفرَهم، مِن عدم الرضا بحكمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (جَآءُوكَ) لو أن المنافقَ الذي نزلتْ فيه الآية، أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تائبًا مستغفرًا، حين ظلمَ نفسه، ووقع منه ما وقع؛ لدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، ولقبلَ الله توبته، ولوجد مغفرة اللهِ حاضرةً، وخوطِب المنافق في قوله (ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ) بضمير الجمع؛ لأنّ الكلامَ صالحٌ لغيره أيضًا، وتعليقُ إتيانهم بـ(لَوْ) الشرطية، يدلُّ على أنهم خُذلوا، وحُرموا من الإتيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يحصلْ لهم الندمُ ولا الاستغفار؛ لأنّ (لو) حرفُ امتناعٍ لامتناعٍ، امتنعتِ المغفرةُ لهم لامتناعِ إتيانِهم واستغفارِهم.

وللآية سبب نزول آخر، ففِي البُخَارِيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ أنه قال: (أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي خُصُومَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدِ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ([2]) إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولِ اللهِ: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْ كَانَ([3]) ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْجَدْرَ([4])، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْفِ حَقَّكَ)([5])، دعاهما النبي صلى الله عليه وسلم أولَ الأمر إلى ما فيه رفقٌ بالأنصاري، مِن باب الصلح، فزاده بالصلحِ على حقه، فلمّا لم يرضَ تركَ النبي صلى الله عليه وسلم حكمَ الصلح، واستوفى بينهما الحقوق، وعُذر الرجلُ، ولم يُرمَ بالنفاق، واحتفظُوا له بلقبِ الأنصاري، وهو وصفٌ رفيعٌ، شرّفَ الله تعالى به أهلَ المدينة، وأثنى عليهم به، ولعلّ الأنصاريَّ استعجلهُ الغضب، وجهلَ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم معصومٌ في صلحِه، كما هو معصومٌ في حكمِه، وعُذر لقربِ عهدِه بالإسلام.

 (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) كان مقتضى قوله (جَآؤُوكَ) أن يقال: استغفرتَ، فحُوِّلت الجملةُ من الخطابِ إلى الغَيبة، بذكره صلى الله عليه وسلم بوصفِ الرسالة؛ تفخيمًا لشأنِه (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) لعلِمُوا أنَّ الله يقبل توبتَهم ويغفرُ لهم، أو لَصادفُوا قَبولَ الله لتوبتهم.

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء:65].

(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) نفيٌ يؤكِّدُ عدمَ إيمانِ مَن لم يرضَ بحكم رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أُكدَ بالقسمِ وبمؤكدٍ لفظي، وهو تكريرُ لا النافية، والمعنى: فوربِّك لا يؤمنونَ، ولكن استفتحَ الكلام بالنفي؛ تأكيدًا للنفي الذي بعده في قوله (لَا يُؤمِنُونَ) (شَجَرَ بَيْنَهُمْ) شجر من المشاجرة، وهي الخصومة التي تختلط فيها الأقوال، وتتعارضُ الدعاوَى، وتتشابكُ كما تتشابكُ فروع الشجرِ وتختلطُ (ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ) الحرج: الضيقُ المشوبُ بالكرهِ والإباءِ، ويطلق الحرج على الشك؛ لأن الشاكَّ في أمرٍ يضيقُ صدره به، والحرجُ المأمورُ بالتنزه عنه عند التحاكم، ليس الحرج الذي يجدهُ المتخاصمُ إذا جاءَ الحكمُ لغير صالحه، فذلكَ أمرٌ معفوٌّ عنه، لعدم القدرة على دفعه؛ لِمَا طُبعت عليه النفوس من هذا القدْرِ، فكل أحدٍ يتمنى أن يكونَ الحكم له، لا لخصمِه، وإذا كان للعبدِ من الإيمانِ ما يجعله يتغلبُ على هذا أيضًا – ويقول عند سماعِ الحكم لصالحِ خصمه: سمعْنا وأطعنا، وأحكامُ الله على رقابِنا – كان مِن المفلحين، وهذا ما يرشدُ إليه القرآن في قوله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([6])، والحرج الذي يجب على المسلم التنزهُ عنه عند التحاكمِ، ويُعدُّ الوقوعُ فيه كفرًا، هو عدمُ الرضا المصحوب بنسبةِ الجَوْرِ والظلمِ إلى حكمِ الله، أو إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو نسبتهِ إلى الخطأ، أو نسبة الظلمِ إلى الشريعة، قال الله تعالى في وصف المنافقين: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ)([7])، إلى أن قال: (أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)([8])، فمَن ارتابَ في حُكمٍ حَكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال عنه إنه غير صوابٍ، كَفَرَ؛ لأن كونَه غيرَ صوابٍ معناه ظُلم، ونسبة الظلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرٌ، وكذلك مَن قال لغيرِه من الحكام المترافعِ إليهم بينَ المسلمين: لا أرضَى بحكم الله، أو رَدَّه استهزاء بالشريعة، فإنه يكفرُ، وهذا بخلاف مَن لم يرض بالحكم الصادرِ من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير طعنٍ في الشريعة، وإنما لمجردِ أنّ الحكم لم يصادفْ هواه، فهذا فاسقٌ ضالٌّ، كأيِّ عاصٍ مُؤْثرٍ لهواهُ على حكمٍ من أحكامِ الله.

فإن كان عدم رضاه بحكم الحاكم بالشريعةِ، لظنهِ أنّ الحاكم جانبَ الصواب في حكمه، لا اعتراضًا منه على حكم الله، فلا يضرُّه ذلك، فقد كرهَ العباسُ وعليٌّ رضي الله عنهما حكم كلٍّ من أبي بكر وعمر في أرضِ فَدَك، التي تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا رَدًّا لحكم الله، ولكن في رأيهما أنهما أخطآ في الاجتهاد، فهناك فرق بين هذه الأوجه الثلاثة في رد الأحكام، ينبغي التنبهُ إليه، خلاصته:

1ـ ردُّ حكم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو الارتيابُ في عدالة حكمِ الله ورسوله، ونسبته أو نسبة الشريعة إلى الجَوْر، فهذا كفرٌ بالاتفاق.

2ـ عدمُ الرضا بحكم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اعتقادًا أن الحاكم أخطأ في حكمه، لا تنقصًا في الشريعة، فهذا يعذر صاحبه، وليس كالأول.

3ـ عدمُ الرضا بحكم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اتباعًا لهوى النفس، لا ردًّا لحكم الله، فهو فسوقٌ وضلال.

والآية مرتبطة بسبب نزولها في بيان حكم المنافق، الذي لم يرضَ بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عملٌ من أعمالِ الكفر، وحكمٌ عام في هذا المنافق، وفي كل مَن عمل عمله، ووجهُ أخذ ذلك من الآية؛ أن الله تبارك وتعالى ما أرسلَ الرسلَ إلّا وقد أمرَ بطاعتهم، فمنْ لم يطعْهم، ويرضَ بحكمهم، فقد ردَّ رسالتهم، وطعنَ فيها، ومن ردَّ الرسالةَ كان كافرًا بالإجماع.

(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) يسْتسلِموا وينقادُوا انقيادًا كاملًا، والجملةُ مؤكِّدةٌ لمضمون ما قبلها مِن معنى الطاعة، و(تَسْلِيمًا) منصوبٌ على المصدر، أي تسليمًا كاملًا.

 

[1]) النساء:156.

[2]) الحَرَّة: مسيل ماء، كالوادي، يأتي من الحرة، أرض سوداء بها صخور، يسقي منه الناس نخيلهم.

[3]) أَنْ كَانَ: أن مصدرية، أي كونه ابن عمتك، والزبير أمه صفية بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم.

[4]) الْجَدْرَ: حاجز التراب؛ لحفظ الماء حول الشجرة، يسمى عند أهل طرابلس (السِّزْر).

[5]) البخاري:2359.

[6]) النور:51.

[7]) النور:48.

[8]) النور:50.

التبويبات الأساسية