المنتخب من التفسير -الحلقة 273 - سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

[سورة المائدة:1].

 

 

هذه السورة سميت المائدة، وبها سمتها عائشة رضي الله عنها، وبعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما وردَ فيها من ذكرِ المائدة، التي سألَ عيسى عليه الصلاة والسلام أنْ ينزلَها اللهُ على قومه، وتسمى أيضًا العقود؛ لافتتاحها بآيةِ الوفاء بالعقود، وهي مِن آخر سُوَر القرآن نزولًا، نزلَ أكثرها بعد فتح مكة، وبعضُها نزل في حجة الوداع يومَ عرفة، وهو قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين قال له اليهودي: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ اليهود، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ ؟ قَالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ”([1])، فهي مدنية بالاتفاق، وترتيبها في النزول – عند جابر بن زيد – الواحدة والتسعون، نزلت بعد الأحزاب وقبل الممتحنة، ولعل هذا باعتبار بعضِ آياتِها، فإن منها ما نزلَ بحجة الوداع دونَ شك، وآياتها مائة واثنتان وعشرون، وقيل غير ذلك.

 

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ([2]) إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)[المائدة:1].

افتتحت السورة بنداء المؤمنين بوصف الإيمان؛ ليحملهم الإيمان الذي وُصفوا به على المبادرة بقَبول ما أمروا به من التكاليف والأحكام، في هذه السورة، وهي سورةٌ زاخرةٌ بأحكامٍ كثيرة، لم تُذكر في غيرها، ففيها حكمُ السرقة والحرابة، والسائبة والبحيرة، والقصاص في الأطراف، وأحكام المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وكفارة اليمين، وغير ذلك كثير، وافتتاحها بالوفاء بالعقود هو كبراعةِ الاستهلالِ في الخُطب البليغة، يدلُّ على أنها سورة الأحكام، وأول هذه الأحكام قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يقال: وفَى ووفَّى وأوْفى كلها بمعنى، والمزيدُ منها (أوْفَى) أكملُ معنًى وأبلغ، والوفاء بالعقود معناه الأداء، والقيام بما ينبغي نحوها؛ ليتحقق مقصودُها من الحفاظ على حقوق المتعاقدين، وإقامة العدل بينهم.

والعقود: العهود الموثقةُ، جمع عقد، وأصل العقد: ضم أطراف الشيء وربطها ربطًا محكمًا، بحيث لا تنفصمُ ولا تتصدع، كعقد البناء، وفتل أجزاء الحبل بعضها على بعضٍ ليشتد، أو شدّ بعض أجزائه إلى بعض بالعروة والعُقدة، والمراد بالعقود في العرف: الالتزام والتعهد بين جانبين. والعقود جَمعٌ بالألف واللام فيعم؛ لأن أل فيه للجنس، تفيد الاستغراق، فتعم كل العهود والمواثيق، وأولها ما أخذه الله تعالى على الناس؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ)([3])، وكذلك القيام بالشريعة، وكل الفرائض والأَحكَام التِي شرعها الله؛ لِأنَّها كَالعُقُودِ، إِذ قَد التَزَمَهَا المسلمُ بعقدِ الإسلام، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأخذُ على الناس البيعةَ والعهودَ؛ بأن يعبدوا اللهَ ولا يشركوا به شيئًا، ويقيموا الصلاةَ ويؤتوا الزكاةَ، وبالسمعِ والطاعة، والنصحِ لكل مسلم.

ويدخل فيه ما يأخذه الناس بعضهم على بعض من وعودٍ وعقودٍ، سواء  كان بين المسلمين، أو بينهم وبين غيرهم، كما قال تعالى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ)([4])، وكما في قوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)([5])، وقوله: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)([6])، ووفاء الإسلام مع غير المسلمين، ممن لم يحاربهم ويعتدي عليهم، لا وجودَ لمثله بينَ أممِ الأرض، ولا نظيرَ، وقد سئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أحلافِ الجاهليةِ، فقال: (وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً)([7])، ويشمل الأمرُ بالوفاء ما كانَ من العقودِ بين المسلمين أنفسِهم، كعقود الأماناتِ والتعاملاتِ، مما يكونُ الوفاءُ به واجبًا، كعقودِ حفظِ الأملاك بالبيع والشراء والكراء، والشركات ونحوها، وكذلك ما كان الوفاء به مندوبًا من مكارمِ الأخلاق، كالوعود التي لا يترتبُ على التخلي عنها ضرر، فالأمر بالوفاء لمطلق الطلبِ للوجوبِ والندب، ويدخلُ في عموم الوفاء بأحكام الشريعة اجتنابُ المحرمِ والمكروه، وقوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) بدْءٌ في التفصيلِ لما شملته العقودُ بالمعنى الأول، وهو الأحكام الشرعية، فإن الإباحةَ حكم من الأحكام، وقد نقضَه أهلُ الجاهلية بوجوه شتّى، فقد حرمُوا ما أحلَّ الله من الأنعام؛ كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والآية امتنان من الله على عباده بإباحة الأنعام، ولفظ (أُحِلَّتْ) من ألفاظ الإباحة، نصٌّ فيها لا يحتملُ غيرها، ومعناه إباحةُ أكلِ الأنعام والانتفاعِ بها؛ لأنّ الإباحةَ حكم شرعيٌّ يتعلقُ بالأفعال لا بالذواتِ، والبهيمةُ تطلقُ على كل ذواتِ الأربع من حيوان البرِّ، غير السباعِ والطير، وإضافتها إلى الأَنْعَام بيانية، على معنى مِن، وعلامة الإضافة البيانية أن يصحُّ إطلاقُ الثاني منها على الأول، كأن يقال: البهيمة التي هي الأَنْعَام، ومنه قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)([8])، أي الرجس الذي هو الأوثان، وقد ذكر اللهُ أنواع الأَنْعَام ذكورًا وإناثًا في قوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)([9])، ويُلحق بها في الإباحةِ الظباءُ وحمرُ الوحشِ وبقرُها، وقوله (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) أي أحِلّت لكم بهيمةُ الأنعام إلَّا المتلوَّ عليكم تحريمُهُ منها، في قوله الآتي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وما عُطف عليها، فالاستثناءُ في (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) متصلٌ، مما أُحل مِن بهيمةِ الأنعام؛ لإنه من جنسِها، ويصحُّ أن يحملَ (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) على كلِّ ما حرمَ أكلُه في الكتابِ والسنة، وقد (نَهَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَن أَكْلِ كلِّ ذي نابٍ منَ السِّباعِ، وعَن كلِّ ذي مِخلَبٍ منَ الطَّيرِ)، وقوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) منصوب على الحال، أي: أحلت لكم  بهيمة الأنعام حالةَ كونِ الصيدِ حرامٌ عليكم أكلُه وصيدُه (وَأَنتُمْ حُرُمٌ) فهذا القيد (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) لصاحبِ الحال – وهو الضمير المجرور في (لَكُم) بعد تحليل بهيمة الأنعام – يفيدُ تحريمًا آخرَ غير تحريم الميتة، فهو في حكمِ المستثنى المنقطع مِن قوله (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) أي داخل في (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) أفادَ تحريمَ صيد المحرم، وتحريم أكلِه، وحُرُم جمع حَرام، وصفٌ لمن أحرمَ، أو جمع محرِم، وهو مَن نَوى الإحرام بحجٍّ أو عمرةٍ، ويطلقُ على المقيمِ بالحرم، ولو لم يكن محرِمًا، ولكلٍّ مِن مكة والمدينة حَرَمٌ، فحرمُ مكةَ وضعَه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحافظتْ عليه العربُ طول عهودِها، وبقيت معالمه وحدودُهُ واضحةً، حتى جددَها النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكةَ، على ما كانت عليه، وزاد معالمهُ توضيحًا عمر رضي الله عنه في خلافته، وهو مسافاتٌ محددةٌ محيطةٌ بالكعبة مِن كلِّ جهة، تبعدُ وتقربُ منها باختلافِ الجهات، فمِن طريقِ المدينة الحَرَمُ أربعة أميالٍ إلى التنعيم، والتنعيمُ في الحلِّ، ومن جهة الطائفِ تسعةُ أميالٍ إلى الجِعرانة، وهي في الحلّ، ومن جهةِ جدة عشرةُ أميالٍ إلى الحديبية، وهي في الحرم، ومن جهةِ العراق ثمانيةُ أميال، ومن جهةِ اليمن سبعةُ أميال.

وحرمُ المدينة حرّمهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: “حَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ بَرِيدًا بَرِيدًا: لَا يُخْبَطُ شَجَرُهُ، وَلَا يُعْضَدُ، إِلَّا مَا يُسَاقُ بِهِ الْجَمَلُ”([10])، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ)([11])، ولابَتاهَا حجارةٌ سودٌ من جهتها الشرقية والغربية، وحرَم مكةَ والمدينةِ لا يقطعُ فيه ما نبتَ بنفسه مِن شجرٍ ولا عشبٍ، ولا ينفرُ فيه صيدٌ، وصيدُ مكة يجبُ فيه الجزاء، وصيدُ المدينة مكروهٌ، ليس فيه عند مالكٍ جزاء؛ لعدم ورودِ الجزاء فيه، والصيدُ في قوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) يصحُّ أن يكونَ بمعناه المصدري، وهو الاصطياد، والإمساكُ بالصيد أو رميُه، وأن يكونَ بمعنى المَصيدِ اسم المفعول، كالخلقِ بمعنى المخلوق، فلا يحلُّ للمحرم أكلُ المصيد مطلقًا، صادَه محرمٌ أو حلالٌ، اصْطِيدَ في الحرمِ أو خارجَه، ولا يحل له مطاردةُ الصيد، ولا الإعانةُ عليه، لا في الحلِّ ولا في الحرم، وجملة (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) في موضعِ التعليلِ للأمرِ بالوفاءِ بالأحكام السابقة، مِن التحليل والتحريم؛ لأن أحكامَ الله فيها تعبديةٌ، على وفقِ مشيئته، يجبُ الوقوفُ عند ما أرادَه الله منها مِن تحليلٍ أو تحريمٍ.

[1]) البخاري: 45.

[2]) كل من الجملة الأولى والثانية في قوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وقعت حالًا، الأولى من ضمير الخطاب في قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ)، والثانية من ضمير (مُحِلِّي) أي (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) حالة كونكم لا تحلون لأنفسكم أكلَ الصيد، وحال تلبُّسكم بالإحرام في حج أو عمرة.

[3]) الأعراف:172.

[4]) التوبة:4.

[5]) الأنفال:58.

[6]) التوبة:7.

[7]) مسلم: 2529.

[8]) الحج:30.

[9]) الأنعام: 143،144.

[10]) سنن أبي داود: 2036.

[11]) البخاري: 1873.

التبويبات الأساسية