المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 182- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (182)

(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران:104-105].

(وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) اللام في (ولتكن) لام الأمر، وهي مع فعلها تدل على وجوب ما دخلت عليه، كأنه قيل: يجبُ أن تكونَ منكم أمةٌ يدعونَ إلى الخيرِ، والخطابُ في (مِنْكُمْ) لكل الأمة، و(مِنْ) في منكم يصحُّ أن تكونَ للتبعيض، فيكون الخطابُ لكلِّ الأمةِ، بوجوب أنْ يقومَ بعضُهم بالأمرِ بالمعروفِ، فإذا فعل ذلكَ بعضُهم برئَت الأمّةُ كلها، وإذا لم تقمْ منهم طائفةٌ به أثمُوا جميعًا، كما هي القاعدة في فروضِ الكفايةِ، ويصحّ أن تكونَ (مِنْ) بيانية، على معنى: ولتكن الأمةُ القائمةُ بالأمرِ بالمعروفِ هي أمتكم، فهذا هو شأنُها واللائقُ بها، والأمة: الطائفة والجماعة، وتقدم في البقرة مزيد بيان في معنى الأمة([1])، و(يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) يدعون إلى الإسلام وشرائعه، وإلى كل ما ينصلحُ به حالُ الناس، وينفعُهم، ويدفعُ الضرَّ عنهم، ويكونُ عطف قوله: (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) عليهِ مِن عطفِ الخاصّ على العام فإنّ المعروف: ما عرفَه الناسُ وأَلِفُوه، مما فيه طاعةٌ للهِ، وفعلهُ قربةٌ، فيشملُ ما هو واجبٌ كأداءِ الأمانة وبرِّ الوالدين، وما هو مندوبٌ كصلة الرحم والمواساة بالمال، والمنكر: ما يقابل المعروف، وهو المكروه المبغضُ الذي أنكره الشرعُ لفساده وبطلانه، والنهي عنه معناه التحذير منه بالبيان والقول، وهو أحدُ مراتب تغيير المنكر الثلاث، وهذا وسطُها، ويكون للعلماء والدعاة، وأول مراتبه تغييره باليد، وهو لولاة الأمر والحكام، وآخرها كراهية المنكر بالقلب، وهذا لا يحلّ أن يخلوَ منه قلبُ مسلمٍ، وليس وراءهُ مثقالُ حبةِ خردلٍ مِن إيمان، والقائمون بهذه الوظيفةِ العظيمةِ الشأنِ في حياة الأمة، كانت لهم ولايةٌ وديوانٌ في دواوينِ الدولةِ المسلمة، بدأ منذُ عهدِ عمر رضي الله عنه، سُمّي بديوان الحسبة، وأحيانًا بولاية السّوق، وفي بعض الأوقات ضمت وظيفة المحتسب إلى القضاء، ما يعطيها قوةَ وصلاحياتِ الضبطِ القضائيّ والردع، ولا يصلح لها كلّ أحدٍ، ولا يتولاها كلُّ مَن دَبّ وهَبّ، كما هو الحالُ في أيامنا، فنجدهم يفسدون أكثر مما يُصلحون، بل لمن يقوم بها شروط، ومن أولويات شروطها العلم بالأحكام، والفقه في الدين؛ حتى لا ينعكس الأمر على القائم بها، فيضع المنكر موضعَ المعروف، والعكس، وكذلك معرفة مراتب الحسبة، وترتيب أولوياتها، وكيفية التمكن من أقامتها على وجهها، ومن شروط من يتولاها  أيضا ألَّا يؤدي أمره ونهيه إلى منكرٍ أشدّ مِن الذي ينهى عنه، لكن يجب أن يتحققَ لديه وقوعُ ما يخافه من المنكر الأشدّ، أو يغلبَ على ظنه وقوعُه، لا مجرد خشيته أو توهمه؛ لأن الأمر والنهي واجب بيقين، فلا يسقطُ إلا بيقين، وتقدم مزيد تفصيل لهذا في قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)([2]) في البقرة (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء القائمونَ بفريضةِ الأمر بالمعروفِ، هم المتصفون بكمالِ الفلاحِ، وقصر الفلاح عليهم مِن القصر الادِّعائي؛ مبالغة في مدحهم به، حتى كأنَّ فلاحَ غيرهم لا يسمى فلاحًا، وقد تقدم معنى الفلاح في أول البقرة.

(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) الآية في النهي عن الفرقة والاختلاف، والفرقة سببها الاختلاف، فالاختلاف شر؛ لأنه سبب الفرقة، وهو مذموم في أصول الدين مطلقًا؛ لأنه يؤدي إلى الكفر، وإلى أن يكفرَ الناسُ بعضُهم بعضًا، ويفسقَ بعضهم بعضًا، وهذا النوع من الاختلاف في تاريخ المسلمين، هو الذي نشأت عنه الفرقة والاقتتال.

أما الاختلاف في الفروع، فإذا كان اختلاف هوًى وعصبيةٍ، فهو أيضًا مذمومٌ؛ لأنه يؤدي إلى الفرقة والعصبية، ويضعفُ الأمة، ويُذهبُ ريحَها، وهو ما يمَكِّن عدوَّها منها، ويفرضُ عليها التبعية والهيمنة والذلة، ويشغلها عن القيام بدورها، في أن تكون دولة قوية عزيزةً مُهابة الجانب، قادرة على إقامةِ الحق الذي تحمله، وإيصاله للعالمين، وهو -أي الاختلاف في الفروع- محمودٌ إذا كان اختلافَ اجتهادٍ وبحثٍ في الدليل، أو فيما هو أصلح للأمة من شؤون دنياها، وهذا لا تنشأ عنه فرقة، بل إثراء للفكر، وتكامل في الفقه والإصلاح، وما كان منه على وفق الدليل الشرعي فصاحبه مأجورٌ، أخطأَ أو أصاب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)([3]) والخطاب في (وَلَا تَكُونُوا) للمسلمين، نُهوا إن يتشبهوا بأهل الكتاب في اختلافهم على رُسلهم، وفي التوحيد والتنزيه، اختلفوا (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) من بعد أن جاءتهم الدلائلُ والحججُ، وجاءهم الوحي، وأنزلت عليهم الكتب، فاختلافهم اختلافُ مكابرة وعناد، لا للوصولِ لمعرفة الحق، فقد عرفوه وأعرضوا عنه (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) العذاب العظيم للذين تفرقوا مِن أهل الكتاب واختلفُوا، ولمن تشبهَ بهم مِن هذه الأمة، وهو مقابل الفلاح المتقدم للقائمين بالمعروف والناهين عن المنكر، وفيه إشارةٌ إلى أنّ التخلّي عن الأمرِ بالمعروف، يؤدّي إلى الفرقةِ والاختلافِ المذمومِ.

 

[1]) انظر تفسير سورة البقرة الآية: 128.

[2]) البقرة: 44.

[3]) البخاري: 7352، ومسلم 1716.

التبويبات الأساسية