بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (139).
((وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)[البقرة:265-266].
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ[1] وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) التثبيت: التمكن والرسوخ، بعد أن ضرب الله المثل لمن أنفقوا منّا ورياءً لأجلِ الناسِ، بمَن زرعَ زرعَه على صفوانٍ صلدٍ، فوقَه ترابٌ خفيفٌ، أتاهُ وابلٌ فجرفَه، ولم يتحصّلْ منه على شيءٍ، ذكر في هذه الآياتِ المثالَ لمن انفقُوا مُبتغينَ بإنفاقهم رضوانَ الله، مثبّتينَ في إنفاقهم تثبيتًا ناشئًا مِن أنفسهم، لا يتكلفونَه محاكاةً لغيرهم، واستعمال التثبيت في الإنفاقِ، يُشعر بأنهم يزدادونَ بالإنفاق ثباتًا على الإيمانِ؛ لأنّه من أعظمِ الأعمال الصالحةِ، والإيمانُ يزدادُ ويتمكنُ بزيادتها (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الجنة: البستانُ به أشجارٌ كثيرةٌ مثمرةٌ ملتفةٌ متنوعةٌ، سُمّيتْ جنةً لأنها تجُنّ مَن يدخلُها وتسترُه بأغصانها الوارفة، فلا يُرى، فهذه بعض سمات ما يسمّى جنةً، والبستانُ الذي يكون به النخيل خالصًا ليس معه غيرهُ يُسمّى حائطًا، والربوة: المكان المرتفع، أي: ومما زاد حسن هذه الأشجار المثمرة الملتفة، أنها بمكان مرتفع؛ لأنها به تصيرُ أجمل منظرًا وأطيبَ ثمرًا (أَصَابَهَا وَابِلٌ) أصابها مطر غزير (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ)[2] فأعطتْ (أكلها) ما يؤكل من ثمارها (ضعفين) أعطت نتاجًا وافرًا مِن الثمارِ، والطلّ: مطر خفيف كبلل النّدى ونحوه، والمعنى: فإن حُرمت هذه الجنة التي بالمكان المرتفعِ المطرَ الغزيرَ، الذي تنتج به أضعافًا كثيرةً، لم تُحرم المطرَ الخفيف، الذي تثمر معه إثمارًا دون ذلك، فهي مخضرةٌ مثمرةٌ على كلّ حال، وكذلك المنفق ابتغاء مرضاة الله، وإن كان الجزاء الذي أعده الله له يتفاوت بقدر إخلاصه ومحبته للإنفاق، ومقدار إنفاقه، فهو مأجورٌ مثابٌ في كل الأحوال (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فليفرح المبتغي بإنفاقه مرضاةَ الله بإنفاقه، وليحذر المرائي المنان بإنفاقه، فكلاهما تحت بصر الله وسمعه، وسيجازي كلًّا بما يستحقّ.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) هذا مثال ثالثٌ، مضروبٌ لسوء عاقبة المرائين، والراجعين للذنوب والمعاصي بعد العمل الصالح (أَيَوَدُّ) هل يحب ويتمنى (أحَدُكُمْ) كهذا الذي أصابه الكبر واحترقت جنتهم، والاستفهام إنكاري، أي: لا يودّ ولا يحب أحدكم أن يكون كذلك (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) هذا وصف لجنة مَن أصابه الكبر في هذا المثل، ولما تكون عليه الجنة عادة، من أنها متنوعة الأشجار والثمار، وذُكر منها النخيل والكروم بالخصوص لشرفهما، فهل يود أحدكم أن تكون له هذه الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تزيدها بهاءً وجمالًا (لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ) أي العجز والحاجة والفاقة[3] (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ) جمع ضعيف، يطلق على الصغير وعلى الفقير العاجز، أي: هم عاجزون مع صغرهم وفقرهم، غير قادرين على الكسب ليغنوه (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) ريح عاتية فيها حرارة شديدة، وتسمى السموم، أحرقت ما أتت عليه، فيبست وصارت أعوادًا.
وهذا المثل بالعقوبة المفاجئة مضروب لثلاثة نفر؛ لمن عرف الحق وعمل به، ثم رجع إلى خلافه، ولمن أبطل عمله الصالح بالذنوب، ولمَن أنفق رياء لغير مرضاة الله.
جاء في البخاري أن عمر رضي الله عنه سأل الصحابة عن هذه الآية، فقَالُوا: اللهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ وقَالَ: "قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لاَ نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: قُلْ وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ، قَالَ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ عزّ وجلّ، ثُمَّ بَعَثَ اللهُ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ"[4].
وقد صور القرآن حال من ذكر ومن كان على شاكلته فنكص على أعقابه، ومثله بمَن له جنة من نخيل وأعناب، ذات بهجة، أشجارها متنوعة مخضرة، بها من كل الثمرات، وله عيال ضعفاء محتاجون، عالة فقراء، وقد أصابه الكبر والعجز، فصار غير قادر على الكسب، فالجنة هي أمله الوحيد، له ولعياله الضعفاء، فيفجع يوما باحتراقها، يأتيها إعصار فيه نار؛ ريح عاصف شديدة الحرارة، يحولها إلى أعواد يابسة، فإصابته فيها عظيمةٌ لا تُقدّر، هي تماما كرزية مَن أبطل عمله الصالح بالذنوب في آخر آمره، بعد أن تعب فيه، ورزية من أنفق لغير مرضاة الله، فكل منهما لا يأمن الفاجعة التي نزلت بصاحب الجنة، فيأخذه الله بالذنوب، ولا يتجاوز عنه.
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) وبمثل هذا البيان بضرب الأمثال المحسوسة، يبين الله لكم الآيات والدلائل المعقولة، التي تهدي إلى الحق؛ لتتفكروا فيها، وتستدلوا بالمحسوس على المعقول، وتنتفعوا بها على أحسن الوجوه.
[1]) ابْتِغَاءَ منصوب على الحال، أي: مبتغين بالإنفاق وجه الله، وَتَثْبِيتًا حال أخرى، أي مثبّتين أنفسهم على الإيمان، ومِنْ في قوله: (مِن أنفسِهم) بمعنى اللام، ويصح أن تكون ابتدائية، فتكون مع مجروها صفة لتثبيت.
[2]) (فإنْ) إن أداة شرط، والفاء في (فطلّ) واقعةٌ في جواب الشرطِ، الذي هو جملةٌ فعلية مقدرة، أي: فإن لم يصبْها وابلٌ فيصبْها طلّ، فالفاء تدخل على المضارع في الجواب، كما في قوله سبحانه: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)، ويصح أن يكون الجواب جملةً اسمية، على تقدير: فطلٌّ يصيبُها، وساغ مجيءُ النكرة (طلّ) مبتدأ لوقوعها في الجواب، على حدّ قولهم: إنْ ذهب عَيرٌ فعَيرٌ في الرباط.
[3]) جملة (وأصابه) حالية؛ لأن الحاجة والفاقة مع العجز والكبر أشد ضراوة.
[4]) البخاري:4538.