بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (40).
(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
هذا تذكير لليهود بنعم أخرى على آبائهم، حيث عفا عنهم وتاب عليهم، بعد عصيانهم وعبادتهم العجل وإيتائهم الكتاب والتوراة، كل ذلك حصل للآباء، وهو يستوجب شكر الأبناء.
(وإِذ وَاعَدْنَا مُوسَى): واعدنا من المواعدة، وهي مفاعلة، أصلها تكون من جانبين، كل واحدٍ يواعد الآخر، وهي هنا على غير بابها، مِن جانب واحد، وهو وعد الله تعالى لموسى، إلا أن يجعل الامتثال من موسى عليه الصلاة والسلام بمنزلة المواعدة، من باب المشاكلة والمجانسة في اللفظ، والمرادُ بالمواعدةِ أمر الله موسى عليه السلام - حين خرج إلى الطور - أنْ ينقطع لعبادة ربه أربعينَ ليلة؛ ليُعدّه لمناجاتِه وكلامِه.
(أَرْبَعِينَ لَيْلَةً): قال تعالى في الآية الأخرى: (ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)[1] قالوا: هي ذو القعدة والعشر مِن ذي الحجة، وخصَّ الله الليالي بالذكر دون الأيام؛ لأنّ الليلة أسبقُ مِن اليوم، فالليالي أولُ الشهور والأيامُ تَبَع، فلذا وقعَ بها التاريخ، فيقالُ: لخمس ليال، أو لخمس بقين من الشهر.
(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ): بعد انقطاع موسى عليه السلام للمناجاة والعبادة، تنفيذًا لمواعدةِ ربّه، استخلف عليهم هارون فاستضعفوه، وظنّوا أنّ موسى هلكَ، فاتخذ قومُه لأنفسِهم عجلًا جسدًا على هيئةِ تمثال آدميّ، به رأسُ عجلٍ له خوارٌ؛ فعبدوه.
والمفعول الثاني لفعل اتخذتم محذوف، تقديره: (معبودًا) وحُذف لشناعة ذكرِه، وفي قوله: (مِنْ بَعْدِهِ) أي: بعد خروجِ موسى، وهو تعريضٌ بقلةِ وفائِهم في حفظِ العهدِ بعد موسَى عليه السلام.
(وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ): اتخذتم العجل والحالُ أنكم ظالمونَ في اتخاذِه بعدَ أن خرجتم من مصرَ، فلا عُذرَ لكم في ذلكَ.
(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): العفو يكون بمعنى ذهاب الشيءِ ومحْوِ أثره، وهو المرادُ هنا، ويكون أيضا بمعنى وجودِ الشيء وكثرته، فهو ضدّ، ومنْه قوله تعالى: (حَتّى عَفَوْا)[2] والعفو قد يكون قبلَ العقوبة، وقد يكون بعدَها، كما في هذه الآية، حيث عوقب بنو إسرائيل في الصحراء بعد عبادتهم العجل أربعين سنة يتيهون في الأرض، وهذا هو محلُّ المنّة عليهم، حيثُ عفَا الله تعالى عنهم بعدَ عبادة العجلِ، وارتكابِ هذا الفعلِ الشنيعِ، بخلاف المغفرةِ، فإنّه لا تكونُ معها عقوبةٌ.
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): العفو عنكم، رجاءَ حصولِ شكرِكُم وتذكّرِكم لنعمِ الله تعالى عليكم فتؤْمِنُوا، وقد تقدّم معنى الشكرِ، والفرقُ بينه وبينَ الحمد في الفاتحة، وتقدمَ معنَى الترجي المستفاد من (لعلّ) في كلامِ الله، عند الكلامِ عن قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[3].
(وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ): واذكروا نعمةَ إنزالِ التوراةِ عليكم، فكانت كتابا وفرقانا بينَ الحقّ والباطل، بها هدايتُكم وصلاحُكم، وعطفُ الفرقانِ على الكتابِ مِن عطفِ المُرادف؛ كما في قولهم: (كذِبًا ومَينًا) و(نَأْيًا وبُعْدًا).
(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): رجاءَ أنْ تهتدُوا، على نحوِ ما تقدم في قولِه: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).