المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 143 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (143).

(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:274-275].

 

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) هذا هو الموضع العاشر مِن مواضع متتابعة في هذه السورة، تحضّ على الإنفاقِ، وتحفزُ عليه بأساليب شتّى، وأوجه في الترغيب متعددة، بدأت بقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) بالإضافة إلى ما تخلل هذه المواضع من الآيات الأخرى المكملة، المقيدةِ للإنفاقِ بالطيِّبِ والسالمِ من الرياء، ومِن المنّ والأذى، الأمر الذي يدل دلالةً واضحةً على ما للإنفاق من أهمية بالغة في النظام الاقتصادي للإسلام، والمنزلة الرفيعة، وما للمنفقين من القدْرِ العظيم عند الله، والحفاوةِ الكريمةِ عند ربهم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) الإنفاق لهم خلقٌ، هو شغلُهم الشاغلُ، يبادرون إليه في كلّ أوقاتِهم مِن ليلٍ ونهارٍ (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) يعمّ جميع أحوالهم، في السرّ والعلانية (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الفاء في (فلهم أجرهم) للسببية، أي: الأجر الذي تحصلوا عليه هو بسبب إنفاقهم[1] (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهم في المستقبل يوم الفزع الأكبر آمنون من الخوف، حين يخافُ الناس، ولا يصيبهم حزن عن شيء فاتهم، فالخوفُ يتعلق بالمستقبل، والحزنُ يتعلق بالماضي، والآيةُ بشرى براحةِ القلب في الدنيا للمنفقِين، فلا يصيبهم حزنٌ عمّا فاتهم، وبشرى لهم بالأمن مِن الخوفِ في الآخرة، وهذا مِن المنزلة العظيمة، التي فضّل الله تعالى بها المنفقين.

 

 (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) هؤلاء هم الكفار الذين قالوا: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ولذا جاء في آخر الآية: (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهو تحذيرٌ للمسلمين مِن أن يفعلوا فعلهم، أو يعم لفظ (الذين) المسلمين وغير المسلمين، ويكون الخلود في حق المسلمين محمولا على طول المدة، لا على خلود  التأبيد، كالخلود في قوله: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)[2].

والأكل في قوله: (يَأْكُلُونَ) بمعنى الأخذ والانتفاع، لا خصوص الأكل، فأخذُ الرّبا كلّه حرام، سواء أُكل أو استعمل في وجوهٍ أخرى مِن وجوه الانتفاع، وخصّ الأكل بالذكر؛  لأنه  مِن أهم الأغراض التي يؤخذُ لأجلها المال، والرّبا معناه في اللغة الزيادة، قال تعالى: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)([3])، ارتفعتْ قشرةُ الأرضِ؛ ليخرجَ منها النباتُ والكلأُ، وفي العرفِ الرّبَا أبوابُه كثيرةٌ، ترجعُ إلى نوعين؛ الأول رِبا النَّسَاء، الحاصل بسبب التأخير، إمّا بالزيادةِ على القرض للتأخيرِ في أجلِ الدَّين، وهو ربا الجاهلية، وإما الزيادة بسببِ التأخيرِ في تبادلِ الأصنافِ الربوية، والثاني رِبا الفضلِ، الحاصل بسبب التفاضلِ في استبدالِ صنف ربوي بآخر منْ جنسهِ (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ) من الخَبْط، وهو ضرب شيء بعصًا ونحوها ضربًا شديدًا، على أنحاء مختلفة، فيتحرك حركةً مضطربةً، خارجة عن السيطرة، في غير اتساقٍ، وكذلك يتحركُ مَن أصابه مسٌّ مِن الشيطان بجنون، ويطلق الخبط على السعي غير المحمود، ومنه: خبط عشواء، العشواء: الناقة التي لا تبصر ليلًا، وهو مثل يُضرب لكل مَن يفعل أفعالًا غير مستقيمة.

قال زهير بن أبي سلمى:

 رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ

تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ

 

 (مِنَ الْمَسِّ) أصل المسِّ اللمسُ باليد، وإذا أُطلقَ في العرف يرادُ به الجنون، يقال: مُسّ الرجل فهو ممسوسٌ، إذا جُنّ، والمعنى: كالذي أصابه الشيطان بجنونٍ، وفي الآية وصفٌ لحال المُرابي، فهو في البعث - عندما يخرج الناس مِن الأجداث سراعًا - يخرج كالمصروعِ، الذي أصابه مَسّ من الشيطان، يقوم ويسقط لثقلهِ وكبر بطنه مِن أكلِ الرّبا، تشنيعًا عليهِ في الموقفِ، وتشهيرًا بحالهِ، يعرفه أهل المحشرِ بذلك، عقوبةً له، وفي الدنيا صفة المرابي أنه تكون حركته - لهلعه عند كسب المال وحرصه وجشعه واضطرابه وعدم سكون نفسه - أشبهَ بالمصروع، الذي يتخبطه الشيطان مِن المس، دلّ عليه قوله تعالى: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).

(ذَلِكَ) إشارةً إلى عذاب الآخرة، وهلع الدنيا الذي هم فيه (بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) بسبب أنهم سوّوا بين الربا والبيع، وجعلوهما في الحِلِّ سواء، بل بالَغوا، وجعلوا الربا أصلا في الحِلّ، وقاسوا البيع عليه، فكأنّ البيعَ اكتسبَ حليتَه مِن حِلّية الربا، وأنّ الربا أقعدُ في الحِلّية في زعمِهم؛ لأنّ الأصل لو لم يعكسوا الأمر أن يقولوا: إنما الربا مثلُ البيع، فقلبوا الأمر، وجعلوه من التشبيهِ المقلوبِ، على حد قول الشاعر:

كأنَّ لونَ أرضِه سماؤُهُ

(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فرد الله عليهم بحكمٍ قطعيّ، لا يحتمل التأويلَ، بحلِّية البيع وتحريمِ الربا، دون نظر إلى قياسهم الفاسد، فالبيعُ أحله الله، والربا حرمَه، وهذا يكفي المسلم، لا يحتاج معه في الامتثال إلى بيان علةِ التفريق بين البيع الحلالِ والربا الحرامِ. 

لكن الحكمة واضحةٌ في الفرق بينهما، لمن أرادها، فمَن بدّل دينارًا بدينارين فقد أضاعَ دينارًا من غيرِ شيء، ومن اشترى سلعة تساوي دينارًا بدينارين، فلأنه يتوقع الربح بردِّ ما أنفق وزيادة، مع ما في وسيلته إلى ذلك مِن النفع العام، مِن خلال التجارة، وما يسهم في نمو الاقتصادِ وتحريك السوق، بخلافِ المرابي (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فمَن بلغه النهيُ، وجاءه العلم بالزجر عن الربا (فَانْتَهَى) نُهي فانتهى، ووُعظَ فاتّعظ وكفَّ وتابَ (فَلَهُ مَا سَلَفَ) فلا حرجَ عليه فيمَا مضَى مِن المقبوض مِن الربا، قبل أن ينزلَ التحريمُ ويبلغه؛ لأنّ التحريم لا يكون بأثر رجعيّ قبل التشريع، كما قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)([4]) (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أي: أمر الذي انتهى عندما جاءتهُ الموعظة، أو أمر ما سلفَ من الربا قبل بلوغ النهي، أمرهم إلى الله، فهو الذي يتولاهم، ويحكم في شأنهم، وهو الذي يتولى التفضلَ عليهم بجزاء الكفّ عن الربا، والامتثال طاعةً له، وامتثالًا لأمره (وَمَنْ عَادَ) لم ينته بعدَ ما نُهي، وبقي على ما هو عليه (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فهو مِن أولئك الذين اختاروا أنْ يكونُوا من أصحابِ النار، الذين كتب عليهم عدمُ الخروج منها أبدًا، إن حُمل على المستحلِّ، القائلِ: إنما البيعُ مثلُ الربا، أو خلود مع خروجه منها في آخر الأمر، إن حُمل على المتهاون غير المستحلّ، فالخلود يطلق على المكثِ الطويل في كلام العربِ، ومنه قولهم: خلَّدَ اللهُ ملكَه، وقول الشاعر:

ولا خالدٌ إلَّا الجبالُ الرّواسِي

 

[1]) جملة (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) خبر المبتدأ في قوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ)، ودخلت الفاء في خبر الموصول لشبهه بالشرط، والأصل عدم دخول الفاء على الخبر.

[2]) النساء:93.

[3]) الحج: 5، فصلت: 39.

[4]) الإسراء: 15.

التبويبات الأساسية