المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 302
[سورة المائدة: 78 – 79]
(لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيٓ إِسرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبنِ مَرۡيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعتَدُونَ)(78)
هذا رجوعٌ إلى الكلام عن اليهود، بأنهم قد حقت عليهم اللعنة، ثم بين السبب في هذا اللعن على وجه الحصر في أمرين؛ الأول بما عصوا وكانوا يعتدون، والثاني كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، والحصر استفيد من الاستئناف البياني في قوله (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) فهو واقع موقع الجواب عن سؤال مقدر، كأن سائلًا سأل فقال: لماذا لُعنوا؟ فأجيبَ: لأنهم عصَوا وكانوا يَعتدونَ، والمعنى: ما أصابهم اللعن إلّا بسبب عصيانهم، وتمردهم على أوامر الله، واعتدائهم على الأنبياء، فالإشارة في قوله (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) إلى ما ذكر من لعْنهم، والباء في (بِمَا عَصَوْا) للسببية، وما مصدرية، والعصيان: ترك المأمور به، والاعتداء: عدوانهم وتعديهم على محارم الله، بما في ذلك قتلهم الأنبياء، وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وفي الآية إقامة للحجة عليهم بأنَّ لعنَ اليهود مذكور في كتبهم، ثابتٌ في الزَّبُور (عَلَى لِسَانِ) نبيهم (دَاوُودَ) عليه السلام، وفي الإنجيل على لسان نبيهم (عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) عليه السلام، فهو على لسانَيهما؛ لأنهما اثنان، وأفردَ اللسانُ لعدم اللبس، وعبر بالفعل وهو (عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) مع ما المصدرية، دون الإتيان بالمصدر؛ ليفيد أن حصول الاعتداء منهم لم يقتصر على الماضي، بل هو أيضا – مع حصوله في الماضي – متجددٌ مستمرٌّ لم يتوقف.
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَفعَلُونَ }(79)
والسببُ الثاني في لعنِهم أنهم كانوا لا يَتناهونَ عن منكرٍ فعَلوه.
جاء عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قَال: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسِقُونَ}، ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا)([1])، ذلك ما جرَّه علماء بني إسرائيل على قومهم، وفي حكمهم كلُّ من يعمل عملهم من علماء المسلمين، فيتطلعُ إلى ما بأيدي الحكام الظلمة وأعوانهم، وينتظر شيئًا مما عندهم بوسائلَ صارتْ في أيامنا معهودة، كالتلويح بوعودٍ في مناصبَ، أو الترغيب بما يصيبهم من فُتات أموالهم، يطوقونَ به أعناقَ العلماء للسكوت عنهم، أو لمصانعتهم إذا جلسُوا إليهم، حيث يتظاهرون بالنصح لهم والحرصِ على آخرتهم، ويحصلُ مِن الواحد منهم ما ظاهره أمرٌ ونهيٌ وهو غارقٌ في دنياهم، أو طامعٌ في عطاياهم، فالنهي الذي يكون على هذا النحو داخلٌ في قوله (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) على ما فسره به حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: كان الرجل من بني إسرائيل يقول للآخر: (يَا هَذَا، اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ)، فهذا ليس من النهي عن المنكر، بل هو عين المنكر؛ لأنه من الرياء وتبادل المنافع، يوَطّنُ المنكر، ويشدُّ أركانه، ولا يُقلق الظلَمة، بل يرتاحون إليه؛ لأنهم يُلَبّسون به على العامّة، ويتباهونَ به أمام الشعوب، بأنهم يُقربون العلماءَ ويستشيرونهم، ولا يجرؤُ الواحدُ من أمثال هؤلاء العلماء أن يقول للحاكم فيما بينَه وبينَه ما يغضبُه، بل ربما زَين له سوءَ عملِه، فهذا هو نهي بني إسرائيل الذي استحقوا به اللعنةَ والغضب، يُرضي الظالمينَ، ولا يُرضي ربَّ العالمين، وقال (عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) ومعلوم أن المنكر لا يمكن رفعه بعد فعلِه، فمعناه النهي عن العود إليه، والنهي عن فعل مثله، أو النهي عنه عند إرادةِ فعلِه، على حدِّ قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلقُرءَانَ فَٱستَعِذ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّیطَٰنِ ٱلرَّجِیمِ﴾([2])، وصيغةُ يتناهونَ مفاعلةٌ، تقتضي مشاركةً في النهي عن المنكر بين جهتين، لأن الأمة إذا أرادت التصديَ للفساد ومنعَ الانحراف، لا يتمّ لها ذلك إلَّا إذا كان النهي فيها من الجانبين، فالناهي لغيره عن المنكر قد يقعُ هو في المنكر ويصيرُ منهيًّا، ولا يمتنعُ غيره عن أن ينهاه، فالتناهي لابدّ أن يكون من الجانبين، والتشديد في ترك النهي عن المنكر على هذا النحو يبين أهمية هذه الفريضة، فإنها إذا أُهملتْ كانت نذيرَ شؤم، والأقبح من إهمالها بالكلية أن تستعملَ على غير وجهها، لتوطيدِ أركانِ الظلم، وتثبيتِ عروشِ المنكَر، كالذي كان من بني إسرائيل، فاستحقّوا به اللعن.
ونسبَتِ الآيةُ تركَ النهي عن المنكر لجميع بني إسرائيل في قوله (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ) مِن جهة أن القادرين عليه تركُوه، والباقينَ رضُوا وسكتُوا عنهم، فكانوا جميعًا مستحقينَ للعذاب، وهو ما يُبيّن خطورةَ التهاون والسكوتِ عن المنكر، فإن المنكر عادةً تبدأهُ جماعةٌ صغيرةٌ وأفراد، فإذا ما تهاونَ الناسُ في كفهم، جرأهم التهاونُ على التمادي عليه، وجرّ غيرَهم إليهم، فيستفحلُ أمرُه، ويعمّ فسادُه، وتتسعُ رقعتُه، ويصيرُ مألوفًا بالسكوتِ عنه، حتى يتناسَى أنه منكرٌ، فلا يقدر عليه، ولا يرجى الرجوع والإقلاعُ عنه إلّا بكلفةٍ باهظة، وهي عقابٌ يعمهم، واللام في قوله (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) للقسم، وبئس مِن أفعال الذم، أقسم الله على ذمِّ بني إسرائيل؛ لتركهم النهي عن المنكر، فالمخصوص بالذم هو تركهم النهي عن المنكر، الذي استوجَبوا به سخطَ الله، وقال (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) فسمّاه فعلًا مع أنه تركٌ؛ لأن التركَ فعلٌ، وفيه دليلٌ على القاعدة الفقهية المعروفة، التي ذكرها المَقَري رحمه الله وغيره من فقهاء المالكية، قال رحمه الله: “التركُ فعل، وبه كُلِّفنا في النهي عند المحققين وهو الصحيح”، ويدل عليه أيضًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إليهمْ…) وذكر منهم (…وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ)([3])، قال القاضي عياض رحمه الله: “لأنه بتعريضِهِ له للهلاكِ أشبَهَ قاتلَه”.
[1]) أبوداود: 4336.
[2]) النحل: 98.
[3]) البخاري: 2369.