المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 82 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (82).

 

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة:153-156].

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا) تقدمَ الكلامُ على الاستعانةِ بالصبرِ والصلاة، خطابًا لبني إسرائيل، في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)([1])، وذكر لهم هناك أنه - أي الاستعانة بالصبر والصلاة - أمرٌ شاقّ، فقال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)([2])، ولم يأتِ هذا في خطابِ هذه الأمة، فكان الأمرُ به - مِن فضلِ اللهِ ومنته - أهونَ عليها، وزادَ هنا بشارةً ذيلت بها هذه الآية: (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) إشارة إلى الامتثال في هذه الأمة، وإلى أنّ المعدودين من الصابرين فيهم كثير، وافتتح الأمر هنا بالنداء للمؤمنين، للتنبيه على أهمية ما يأتي بعد النداء، وأنه مما ينبغي الاعتناء به والإصغاء إليه؛ لأنه يمهد ويهيئُ لأمرٍ عظيمٍ سيقعُ، وهو الأمرُ بالقتال في سبيلِ الله، حتى يوطِّنوا أنفسَهم، ويكونوا أبعدَ عن الجزعِ، فإنّ آيات القِبلة نزلت في السنة الثانية، قبل الأمر بالقتال في بدر بزمنٍ قريبٍ، والموتُ في سبيل الله أقوى ما يحتاج فيه إلى الصبر.

 (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْياءٌ) التعبير بالمضارع (يُقتل) يدل على أنه يقع مستقبلا، وارتفع أموات وأحياء على إضمار مبتدأ، ،  أي: هم  أمواتٌ وهم أحياء؛ فتكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وليست مقولا للقول، إذ لا يصحُّ النهي عن مجرد تلفظهم وقولهم أموات، كما صح مثلًا في قوله: (قَالُوا سَلَامًا)([3]) لصحته وظهور المناسبة، و(بَلْ) للإضرابِ الإبطالي، أبطلت قولهم هم أموات، والنهي عنه على معنى: أنّ هذه هي الحال الفخمة العظيمة المرضية للشهداء، وهي أنّهم أحياء، لا على معنى: قولوا هم أحياء، فالله يخبرنا مِن عنده جلَّ في علاه أنهم أحياء، لا يطلب منا أن نقول إنهم أحياء، وقد دلّت الآية على أن الشهداء أحياء فعلًا في البرزخِ، وليسَ أنهم سيَحيَون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرقٌ ولا فضلٌ، يؤكدُه قوله سبحانه وتعالى: (وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) فالمؤمنون عامة يشعرونَ أنهم سيحيون، فلا يصحّ نفيُ الشعور بذلك عنهم، وذهبَ كثيرٌ من السلف إلى أن حياة الشهداء حياةٌ حقيقيةٌ، بالروح والجسد، لا ندركُها، ولا نعلم حقيقتَها؛ لأنها من أحوالِ البرزخ التي لا يطلعُ عليها، وذهب فريق آخر إلى أن حياتَهم غير ماديةٍ ولا محسوسةٍ، وإنما هي حياةٌ روحانيةٌ، لكن ليست كحياة سائرِ الأرواحِ، بل حياةُ الشهداء روحيةٌ تدركُ التنعمَ بلذائذِ الجنةِ وخيراتها، فقد صحَّ أنها تسرح في الجنةِ حيث شاءت، تأكلُ مِن ثمارها، وتشرب من أنهارِها، فأرواحهم وإنْ فقدت الجسم المحسوس المألوفَ، فقد أُعطيت حياة مناسبةً لحالِ الجنةِ، تتوصلُ بها إلى نعيمها.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ)

 (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التأكيد، كبناء خمسة عشر، مشتق من الابتلاء، وهو الاختبار والامتحان، يفعل الله بهم فعلَ المختبرِ؛ ليظهر ما كان في علمِهِ مِن صبر الصابرينَ، فيوفيهم أجورهم، وجزعِ الجزعين، فيكونوا عبرةً لغيرِهم (بِشَيْءٍ) الشيء مفردٌ، ومعناه جمعٌ، وتنكيرهُ للتقليلِ، أي: يقعُ ابتلاؤُكم بشيء قليلٍ من الخوفِ، وشيء قليلٍ مما ذكر بعدهُ، واكتُفي بالأولِ اختصارًا، وقِلتُه هو بالنسبةِ إلى ما وقاهم منه؛ ليعرفوا قدرَ رحمته وإحسانِه، كما قال سبحانه وتعالى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)([4]) (مِنَ الْخَوْفِ) مِنْ بيانية، يكون الابتلاء بالخوف مِن العدو، وبعدمِ الشعور بالأمن (وَالْجُوعِ) ويكون بالحاجة والفاقة وفي المجاعاتِ (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ) بالجوائح والكوارث والحرائق، والخسائر في الصفقات والتجارات، والابتلاء في (الْأَنْفُسِ) بالجهاد والدفاع عن الحق، فإنّ أهلَ الحق يمتحنون في أنفسهم؛ ليظهرَ مدى ثباتهم عليه، ويمتحن الناس عامة في أنفسهم، بأنواعِ الأمراض والشدائد؛ لإظهار صبرهم (وَالثَّمَرَاتِ) بما تُنبته الأرض مِن الفواكه والحبوبِ، والابتلاء فيها بالآفات والجوائح  (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البشارة: الإخبار بما يفرح القلب ويدخل السرور، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه الخطاب، وتقدم الكلام على الصبر في قول الله سبحانه وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ).

 (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) المصيبة: كل مكروه يحل بالإنسان، من مرض ووجع، أو فقد مالٍ أو نفس، وتنكيرها يفيد عموم أنواعها، صغيرها وكبيرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)([5])، (إِذَا أَصَابَتْهُمْ) فعل شرط وأداته، ووقوع (قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) في جوابه دالٌّ على ارتباط الفعل بالجزاء، وطلب وقوع الاسترجاع عند المصيبة لا بعدها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)([6]).

والاسترجاع المأمور به هو في الحقيقة يقين واعتقاد، بأنّ ما أخذ وما بَقي ملك لله، وليس الاسترجاع النافع فقط قولا باللسان، وإنما ذكر القول لأنه الذي يعلنُ به عن ما في المعتقد، والمعتقد يقوى بالتصريح به، ولا ينفع استرجاعٌ باللسان خالٍ من يقين، يستشعر فيه العبد الامتنان بما أبقاه الله له من النعم السابغة عند المصيبة، واللام في قوله (لِلهِ) للملك، وحذف المبشَّر به وأبهم لتفخيمه، ولتذهب به النفس كل مذهب، أي: بشره برحمة عظيمة وإحسان جزيل، يدلُّ لذلك قوله بعد ذلك: (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[7].

 

 

[1]) البقرة: 45.

[2]) البقرة: 45.

[3]) هود: 69.

[4]) إبراهيم: 34.

[5]) البخاري: 5318 واللفظ له، مسلم: 2572.

[6]) البخاري: 1223، مسلم: 926.

[7]) البقرة: 157. 

التبويبات الأساسية