بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (202)
(وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران:157-160].
(وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) الواو في قوله (وَلَئِن) للعطف، والمخاطَبون هم المؤمنون، عطفوا على مَن قبلهم في قوله: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) واللام موطئةٌ للقسم، أي مؤْذنةٌ به، داخلةٌ على قسَم محذوفٍ، وتصحبُها دائمًا أداةُ الشرط (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) في الغزو، أو (مُتُّمْ) على فراشكم في سبيل الله (لَمَغْفِرَةٌ) اللام واقعة في جواب القسم، وجواب الشرط محذوفٌ، دلّ عليه جواب القسم، أي: لمغفرةٌ تحصلُ لكم (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من الغنائم([1])، وقُدّم القتلُ في سبيل الله في الجملة الأولى على الموت؛ لأنه أقوَى في المغفرة، وفي الجملة الثانية قدّم الموت؛ لأنه أكثر وقوعًا، وهما جميعًا يحشرونَ إلى الله، وتقديم المجرور في قوله: (إِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) يفيدُ الحصر، فالحشرُ إلى الله وحدَه لا إلى غيره.
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ) فبسببِ رحمةٍ من الله، تفضَّل الله بها عليهم، وجعلَها في قلبك مصاحبةً لك (لِنْتَ) لهم، وكنت رحيمًا بهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([2])، وقال سبحانه: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)([3])، فكنتَ هيِّنًا ليِّنًا، تأخذهم بالرفقِ، وتعاملُهم بالحسنى، تعفُو عن مسيئِهمْ، وتُعرضُ عن جاهلِهم، مع تبليغِ الدعوة لهم كاملةً، بلا مصانعةٍ ولا مداهنةٍ، طلبًا لنجاتِهم، وحرصًا على آخرتهم، شفقةً عليهم، ونصحًا لهم، وهذه هي الرحمةُ الحقيقية، التي ينبغي على كل مصلحٍ أن يحافظَ عليها، فيترفقُ بالعامة، ولا يصانعهم ويوافقهم على الباطل، وعلى ما يخالف الشرع (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) مِن الفظاظة، وهي الجفوة وسوء الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسي القلب، شديدًا عليهم، عنيفًا معهم (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لابتعدوا عنك وتركوك، وتفرقوا عنك، فكانوا أبعد عن الهداية، فامض على ما أنت عليه من العفو والشفقة، ولينِ الجانب، واستغفر للمذنب منهم (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) في أمر المصالح العامة للأمة، وفي كل شأنٍ مِن شؤونها، وعلى رأسِها أمرُ الحرب والسياسة الشرعية، مما ليس فيه وحيٌ من الله، والأمرُ بالشورى للوجوبِ عند مالك وأصحابه، وعلى العموم لكلّ وُلاةِ الأمر، فتجب عليهم مشاورة النصحاء الأمناء المتقنين، مِن أهل الخبرة والاختصاص، كلٌّ في الشأن الذي يخصه، فالعلماءُ في أمرِ الدين، ووجوهُ الجيش في أمر الأمن والحرب، وأهلُ الاقتصاد والسياسة في شؤون المال والسياسة، وهكذا، قال ابن عطية: “الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين – أي مِن الأمراءِ – فعزلُه واجبٌ”([4])، وهذا مما لا اختلافَ فيه، وتوجيهُ كلامِه أنّ الوصولَ إلى الصوابِ في مصالح الأمم واجبٌ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلّا به فهو واجبٌ (فَإذا عَزَمْتَ) عقب أنْ شاورتَ، وقلَّبتَ الأمرَ، وبانَ لكَ وجهُه، وصرتَ إلى رأيٍ راجحٍ فيه، وعزمْتَ (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فتَوكَّلْ دالةٌ على الجواب المحذوف، وتقديره: فبادرْ وامضِ لما عزمتَ عليه، متوكلًا معتمدًا على الله، ولا تترددْ؛ لأن الترددَ آفةٌ من الآفات، ومضيعةٌ للأوقات، والعزمُ بعد المشورةِ هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه لأُحدٍ، لابسًا لَامَةَ الحربِ (الدرع)، وقد غيّرَ بعضُ مَن شاورهم في الخروجِ رأيَه، وأشارَ عليه بأن لا يخرجَ، فقال لهم: (إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إذا لَبِسَ لَامَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ)([5]) (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) الله يحب التوكلَ عليه، والاستعانةَ به، والاعتمادَ عليه، وإسنادَ القدرةِ الفاعلةِ الكاملةِ إليه، لكن ذلك يكون مع إعدادِ العدة، والأخذِ بالقوة، التي أمرَ الله بها، كما تقدمَ بيانه، وهو تحقيقٌ لأمره تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا)([6])؛ ليتميز المشمِّرُ من العاطلِ المفرطِ، وقد حرفَ البطَّالونَ معنى التوكل، فحولوه إلى بطالةٍ، فأفسَدُوا الدين.
(إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ) النصر من الغير: العون على الغلبة، والخذلان: خلافه، وهو التخلي والامتناع عن العون مع القدرةِ عليه، وقوله (فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) نفيٌ لجنسِ الغالبِ، فلا يوجد غالبٌ لكم في الدنيا في أيِّ وقتٍ من الأوقات إنْ أراد اللهُ نصركم، ولا يستفادُ هذا العمومُ في نفي الغلبةِ عليهم لو قيل: لا تُغلبونَ؛ لأنّ الفعل لا عمومَ له، فقد يحمل لا تغلبونَ على وقتٍ أو عدوٍّ دون غيره، والاستفهامُ في قوله: (وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) إنكاري بمعنى النفي، فإن خذلَكم الله، وحُرمْتم تأييدَه وتوفيقَه، فلا أحدَ غيره قادرٌ على أن ينصرَكم، وقوله: (مِنْ بَعْدِهِ) أي مِن غيره، أو لا ينصركم أحدٌ مِن بعد خذلانه (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر بالتوكل على الله، مع قصر التوكل عليه وحده دون سواه، وعُلم القصرُ مِن تقديمِ الظرفِ (وَعَلَى اللهِ) على فعلِه.
[1]) (متُّمْ) بكسر الميم لغة الحجاز، مِن ماتَ يَماتُ، كخافَ يخافُ، مكسور العين، فيكسرُ أوله مع تاءِ الخطاب، كما في خِفتَ ونِلتَ، و(مُتُّمْ) بضم الميم لغةٌ لبعض مضر، مِن ماتَ يَمُوت، مثل كان يكونُ، فاؤه مع تاء الخطاب مضمومةٌ، كقُلْتَ وكُنتَ.
[2]) المؤمنون: 107.
[3]) التوبة: 128.
[4]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 1/ 534.
[5]) مسند الإمام أحمد: 14787، والمنتقى لابن الجارود: 1061.
[6]) التوبة:105.