بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (192)
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آل عمران:128-132].
الخطابُ في قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) للنبيّ صلى الله عليه وسلم، واللام في (لَكَ) للملك، وجملة (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معترضةٌ بين المعطوفاتِ، من قوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ)، التي تحكي تنوعَ ما حلَّ بالمشركين يوم بدر، والتقدير: نصركُم اللهُ عليهم ببدرٍ ليقطعَهم، أو يكبتهم، أو يتوبَ عليهم، أو يعذبهم، فيقطعَ فريقًا منهم بالقتلِ ويميتَه، ويُذهِبَه ويريحَكُم منه، ويكبت يغيظَ آخرين بالهزيمةِ والأسْر، وكسرِ شوكتهم وإذلالِهم، فيعودوا مكمودِينَ، وليُبقيَ فريقًا للتوبة بدخولِ الإسلامِ ونصرةِ الدين، كما كان مِن خالدٍ بنِ الوليد، وعكرمةَ بنِ أبي جهل، وأبي سفيان، وليذيقَ فريقًا منهم العذابَ، فمنهم من أذاقه عذابَ الدنيا بذُلِّ الأسْر، وطلبِ الفداءِ، ومنهم مَن أذاقهُ عذابَ الآخرة بالموتِ على الكفر (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) مستحقونَ جميعًا لما وقع بهم، وإن شملَ بعضَهم عفوُ الله فأكرمَه بالإسلام آخرَ أمرِهِ، فأمرهم إلى الله، وليس أمرُ أحوالهم إليك، فاللهُ وحده هو الذي يحكمُ عليهم بما يريدُ، وهو أعلم بما يظهر به دينه، وبما يقمعُ به الكفرَ وأهله، وهذا بيِّنٌ في أن نزولَ الآية – كما يدل سياقها – كان في أحوالِ المشركين يوم بدر ، لكن جاء في صحيحِ مسلم من حديثِ أنس؛ أنه لما شُجّ وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم وكُسرت رَباعِيّته يوم أحد، وجاء أصحابُه يمسحون الدمَ عن وجههِ، قال صلى الله عليه وسلم: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟) فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾([1])، وورد أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَسَمَّى أُنَاسًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تنهاه عن ذلك([2])، ثُمَّ أَسْلَمُوا، وفي مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بقيَ شهرًا يقنتُ في صلاتِهِ، يدعُو على قبائلَ مِن العربِ قَتَلوا القُرّاء في بئرِ معونة؛ رُعل وذكوان وعُصية، فلمّا نزلَ قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ ترك الدعاء عليهم، ولا يعكّر هذا على أنّ نزولَ الآيةِ كان في بدرٍ، وما وردَ في السُّنة مما ظاهرهُ خلافه يُعدُّ مِن تعدُّد النزول([3])، بمعنى أنّه تكررَ التذكيرُ به في مناسباتٍ متعددةٍ.
(وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الملكُ كلّه لله، والأمرُ كله له، أمرُ الدنيا، وأمرُ الآخرة، وليس لأحدٍ غيرِه مِن الأمر شيءٌ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) أَضْعَافًا منصوب على الحال مِن الربا، وهو جمع ضِعف، وضعفُ الشيء: مثله، فضعف الدرهم درهمان، وضعفاه مثلاه، فمَن قال: عندي درهم وضعفاه، فهي ثلاثة، وأضعاف الشيء: أمثاله ثلاث مرات، فما فوق، والأضعاف المضاعفة تعني أن الأضعاف التي يأخذونها في الربا نفسها دخلها التضعيف، فهو ربا فاحشٌ، ولا حدود عندهم للزيادة فيه، وتقدم الكلام على معنى الربا، وأنّ القليل والكثير منه حرامٌ، وأنه لا مفهوم في هذه الآية لقوله تعالى: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فأنه خرج مخرج الغالب على ما كانوا عليه في الجاهلية، من استغلال حالة الضعيف، فيتقاضون منه زيادات على أصل دَينه تبلغ أضعافًا مضاعفةً، فالقيدُ (أضْعافًا) لا مفهوم له، وليس للاحتراز (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) التقوى: مخافة الله في السر والعلن، وهي طريق الفلاح والنجاح، ورجاء الفلاح بالتقوى مِن العبدِ لا مِن الله، كرجاء الرحمة الآتي في قوله: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لاستحالة الترجي في حقه، وقد تقدم نظيره مِرارًا (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) الأمرُ باتقاء النار معناه الابتعادُ عنها، والابتعاد عنها سبيلهُ الاستقامةُ والطاعة (أُعِدَّتْ) هُيّئت، ومُهدَت، فهي أُعدّت بالأصالةِ والذاتِ للكافرين، وبالعرضية المؤقتةِ للعصاة مِن المؤمنين؛ لأنهم يخرجون منها آخر الأمر، وفي قوله: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ما يشير إلى أن اتقاء النار يقتضي البعد عن طريق أهلِ الكفر، وعن متابعتِهم، والتشبهِ بأحوالهم، والتأثرِ بعاداتِهم الذميمة، وأخلاقِهم القبيحة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بعد التحذير من عذابِ الله أُمروا بالطاعة؛ رجاء الظفر برضوان الله والجنة، وقد تقدّم معنى الرجاء، وأنه مِن العبد لا مِن الله.
[1]) صحيح مسلم: 1791.
[2]) صحيح البخاري: 4069.
[3]) صحيح مسلم: 1485.