المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 177- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم 

المنتخب من صحيح التفسير 

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

- الحلقة (177)

 

(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[آل عمران:93-95].

(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ)([1]) بَنو إِسْرَائِيلَ: بنو يعقوب، وهم اليهود، فإسرائيل اسم نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن نبي الله إبراهيم.

فيعقوبُ وآباؤه قبلَ موسى والتوراة، فاليهود يكذبون على نبي الله إبراهيم أبي الحنيفية، ويقولون هو على دينهم دين الشركِ، واليهودُ يحيونَ هذه الأيام الدعوةَ الإلحادية، بمساعدة بعض الحكام العربِ المطبعين معهم، الذينَ يدعمونَ إلحادَهم فيما سمّوه الديانة الإبراهيمية، التي جمعوا فيها بين شركِ اليهودِ والنصارى، وخلَطوا به دينَ المسلمين، فنسبوا - قبحهم الله - بذلكَ هم وبعضُ حكام العربِ إلى نبيّ الله إبراهيم، الذي سمّاه الله مسلمًا ونفَى عنه اليهوديةَ الشركَ؛ قال اللهُ تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)([2]).

ومعنى الآية: كلُّ أنواعِ وأصنافِ الطعامِ كانتْ حلالًا على اليهود، وما حُرمَ من الطعامِ - كلحوم الإبل - على يعقوبَ كانَ قبلَ أنْ تنزلَ التوراة، فلا علاقة له بدِين اليهودِ أتباعِ موسى، وإنما حرّمهُ يعقوبُ على نفسه تحريمًا خاصًّا به؛ حميةً لنفسِهِ وتطبيبًا، أو لنذرٍ نذرهُ، وكان ذلكَ قبل نزولِ التوراةِ ومجيءِ موسى عليه الصلاة والسلام، والدليل على أنّ ما حرّمهُ يعقوبُ على نفسهِ لا علاقةَ له بدينِ اليهودِ؛ أنّكم لا تجدونَ شيئًا مما زعمتم تحريمَهُ مِن اللحومِ في التوراةِ، فأتُوا بالتوراةِ واقرؤُوها؛ فلن تجدُوا فيها شيئًا مما زعمتم أنّ يعقوب حرمهُ عليكم.

وما حُرم عليكم فيها كان عقوبةً لكم على ظلمكُم، خاصًّا بكم، لا صلة لهُ بدين  إبراهيم، والتحريم الذي أنزله الله بهم عقوبةً لهم، هو ما ذكره الله في موضعينِ: قوله: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)([3])، وفي قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)([4])، وفي قوله (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) تحدٍّ لهم أنْ يثبِتوا  ما ادّعوهُ من التحريمِ، فإنّهم لن يقدِرُوا.

فقوله: (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) شرطٌ جوابُه محذوفٌ، تقديره: إن كُنتُمْ صادقين أن ما حرمهُ يعقوبُ على نفسهِ هو حرامٌ عليكم، فأتُوا بالتوراةِ التي هي مصدرُ التحريمِ في شريعتِكم، وهو أمر تعجيز، فهم لا يأتونَ بها؛ لأنهم إنْ أتوا بها افتضحُوا،  وما ذكروهُ في هذه الآية هو في سياقِ تأكيدِ دعواهم الإلحادية، التي ألصقُوها بنبيّ الله إبراهيم؛ فزعمُوا هنا أنهم حتى في تحريم ما حرمَ عليهم من اللحوم، كان محرمًا على يعقوب قبلَ نزول التوراة، فنفَى القرآنُ صحةَ هذا الزعمِ أيضًا، وقال: كلّ المطعوماتِ كانت حلالًا  لهم، ولم يحرمْ عليهم منها شيءٌ قبل نزولِ التوراة.

(فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ) افْتَرَى من الفري، وهو قطع الجلد؛ ليصنع منه الحذاء ونحوه، ومعناه الكذب، و(الْكَذِبَ) بعده مصدرٌ مؤكد له؛ لأنه بمعناه، والكذب على الله هو نسبتهم إليه ما لمْ يقلْهُ، من تحريم الطعام عليهم قبل نزول التوراة (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) مِن بعدِ قيام الحجة عليهم، بعد أن يأتُوا بالتوراة ويتلُوها، فلا يجدون فيها ما يدّعونه (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المعتدون، فليس هناك أظلمُ ممن ألزمَ الحجة، وبكتَ، وتمادَى في عنادِه (قُلْ صَدَقَ اللهُ) وليسَ أنتم، صِدقُ الله ثابتٌ، وكذبُهم برهانُه واضحٌ (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الخطاب لكلّ مَن يتأتّى منه الخطابُ، ويدخلُ فيه اليهود دخولًا أوليًّا، و(حَنِيفًا) مِن الحنفِ: وهو الميل من الاعوجاجِ إلى الاستقامةِ، وعكسه الجنفُ: فهو ميلٌ من الاستقامة إلى الاعوجاجِ، والمعنى: عليكم بملة الإسلامِ ملةِ إبراهيم، دين الاستقامة، لا ميلَ فيه إلى الباطلِ، ولا اعوجاجَ، اتبعُوهُ، ولا تحيدُوا عنه، ففيه نجاتُكم، فما كان إبراهيمُ من المشركين، كشركِ اليهود حين عبدُوا الأوثانَ، وزعمُوا لله الولدَ.

 

 

 

 

 

[1] ) كلّ من ألفاظ العموم، وإذا أضيفت للمعرفة المفرد أفادت العموم في الأجزاء، وإذا جعلت (الْ) في الطعام للاستغراق الذي يفيد عموم الأطعمة، تكون (كلّ) لتأكيد العموم، الذي فهم من الاستغراق المستفاد من الجمع المعرف، وحِلًّا مصدرٌ كـ(عدل) يوصفُ به المفرد والجمع، والمذكرُ والمؤنث، كما قال تعالى: (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ)، تقول: رجلٌ عدلٌ، وامرأةٌ عدلٌ، ورجلان عدلٌ، هذا هو الأصل، ويصح أن تقول عدلان.

[2] ) آل عمران:67.

) النساء:160.[3]

) الأنعام:146.[4]

التبويبات الأساسية