المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 164- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم 
المنتخب من صحيح التفسير 
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني. 
- الحلقة (164).

 
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[آل عمران:42-45].
 
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) اصطفى الله تعالى مريم مرتين؛ الاصطفاء الأول تقدم في قوله: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) وكان من اصطفائها أنّ اللهَ تقبلها قبولًا حسنًا، بأن أعطاها ما أرادتْ أمّها، مِن النذر لخدمة المسجدِ، على خلافِ ما تعارفوا عليه مِن أنّ هذا لا يكون للنساء، وأنه أنبَتها نباتًا حسنًا، ونشأتْ في كفالة مَن أوتي النبوءة، وأنه باركَ فيها، وأعطاها من رزق الجنة ومِن الكرامة، ما جعل زكرياء عليه السلام الذي كفلها يدعُو اللهَ في محرابها بالولدِ، بعدَ اليأسِ منه؛ لِما رأَى لها مِن منزلتِها وكرامتِها على الله، ثم اصطفاها الله مرة ثانية، فكلمتها الملائكة شفاهًا، وقالت لها: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ) اختارك الله، وأعطاك فضائل جمّةً، وطهّركِ ممّا يُستقذَرُ في النساءِ، وهو الحيضُ، وطهّرها كذلك بالعفة ممّا رماها به اليهودُ بهتانًا وإثمًا، وخصَّها بالاصطفاء بجملةٍ أخرى من الفضائل؛ منها ولادتُها عيسى عليه الصلاةُ والسلام من غير أبٍ، وكلامُ ابنها في المهد ببراءتها، حيث قال: (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ)()، فجعلها وابنها آيةً للعالمين، ومِن جملة فضائلها كلامُ الملائكة لها بالوحيِ، وتكليمُ الملائكة للصالحينَ ثابتٌ، فقد كلّم الملائكةُ بعضَ أصحابِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم، فكانَ عمرانُ بنُ حصين تكلِّمهُ الملائكةُ في بعضِ طرقاتِ المدينةِ جهارًا، لكن لا بالوحيِ.
واختلفُوا في نبوءة مريم؛ فمَن نفاها استدلَّ بقوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)()، حيثُ حُصرتِ الرسالةُ في الرجالِ، ومَن أثبتَها قال إن الآيةَ ذكرَتْ تخصيصَ الرسالةِ بالرجالِ وليسَ النبوءة، والرسالةُ أخصُّ، ونفيُ الأخصِّ لا يستلزمُ نفيَ الأعمِّ، وهذا هو الصحيحُ.
وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في تفضيلِها على سائر النساءِ، فقيل عائشة أفضلُ، فقد جاءَ في الصحيح: (كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْل عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)()، والصحيح أنّ مريمَ أفضلُ نساء العالمين كافةً؛ لقوله تعالى: (وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، ولتكليم الملائكة لها بالوحيِ؛ لأنه يدلّ على نبوتها، ودرجةُ غيرها مِن النساءِ درجةُ ولايةٍ، والنبوةُ أفضلُ مِن الولايةِ عند عامةِ أهلِ العلم، وفي حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ بإسنادٍ حسنٍ يرفعُهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ)().
(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أُمرتْ بالقنوت، وهو إدامةُ الطاعةِ، ومنهُ قولُه تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)()، ويطلق القنوتُ في الصلاةِ على القيامِ لها، وهو والسجودُ أفضلُ أركانِها، كما أُمرتْ مريمُ في قوله: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) بأن تكونَ في جملةِ الراكعينَ المُكثِرِينَ من الصلاةِ، وفي عِدادِهم، لا في عدادِ غيرهم.
(ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) الإشارةُ إلى ما تقدمَ مِن الغيبياتِ، التي أخبرَ اللهُ تعالى بها في قصةِ امرأةِ عمران وزكرياء، أي: ما نقصُّهُ عليك من ذلك هو مِن الغيبِ، الذي ما مِن طريق إلى معرفتهِ إلا الوحيُ، والدّليل على ذلك: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يلقونَ أقلامَهم: يطرحونَ أقلامَهم في النهرِ، يقترعونَ على مَن يكفلُ مريمَ، فمَن يطفُو قلمُه يتولى كفالتَها، والأقلامُ جمعُ قَلَم، والقلمُ أصلُه القطعُ، ومنهُ تقليمُ الشجرِ أي قطعُهُ، فهي قِطعٌ من الخشبِ مرققةُ الرأسِ، تسمّى أقلامًا وتسمّى أقداحًا، والمفردُ قِدح بالكسر، كانوا يستعملونَها في الميسرِ وعندَ القرعةِ، أو هيَ الأقلامُ التي كانُوا يكتبونَ بها التوراةَ، اقترعُوا بها تبرّكًا، والمعنى: تلكَ القصص القرآنية والأخبار الغيبيةُ، التي جاءتك عن مريمَ وزكرياء، هي معجزةٌ دالةٌ على صدقِ رسالتك لو كانوا يعقلونَ، فأنت تخبرُهم بتفاصيلِ أحداثٍ ما كنتَ شاهدًا لها، فما كنتَ حاضرًا بين قومِ مريمَ حين كانوا يقترعونَ عمّن يتولّى كفالتها، وما كنتَ لديهم وهم يختصمونَ تنافسًا على ذلكَ، لو فكّروا في ذلكَ معتبرينَ وتجردُوا عن الهوَى لاهتدَوْا.

التبويبات الأساسية