المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 16 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (16)

 

(وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

(لَقُوااللقاءُ: حصولُ أمرٍ غير مرتبٍ ولا مُعَد، وحدوثُه عَرَضِي ونادِر، وفاعل (لَقُوا) همُ المنافقون.

(خَلَواخَلَا مِن معانِيه: ذَهَبَ وانصَرَفَ، ومنه: (القُرونُ الخَوالِي) الماضيةُ الذاهبةُ، وقولهم: (خَلَاكَ ذَمّ)، أي: عَداكَ وذَهَبَ عنك، ومعنى (إذَا خَلَوا) هنا: إذَا انفردوا بأنفسِهم بعيدًا عنِ المؤمنين، وعُدّي خَلَوا بحرفِ الجرِّ (إلى) لتضمِينه مَعنَى ذهب، وإلّا فالأصلُ أنْ يُقال: (خَلَوتُ بِفلان)، لا إلى فلان.

(إلَى شياطِينِهم): إلى قادَتِهم في الكفرِ والنفاقِ، وكلّ رأس في الشرّ، ومفسِد متمرِّد مِن الإنسِ أو الجنّ فهو شيطانٌ، وقد تقدمَ معنى الشيطان واشتقاقه في الاستعاذة، والمرادُ أنّهم إذا انفردُوا بأنفسهم، وكانُوا مع شياطينِهم، وقادتِهم في النفاقِ والكفرِ والفسادِ، بعيدا عن المؤمنين؛ صرّحوا لشياطينهم بمَا كانوا يُخفُونه مِن الاستهزاءِ بالمؤمنينَ، وقالوا لهُم: إنَّا معكُم على الكُفرِ واليهوديةِ ماضُون.

وهؤلاء هم أنفسهم مَن سبقَ ذكرهم من المنافقين، في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)، وأعيد الكلام عليهم هنا مرة أخرى؛ لبيان نوعٍ آخرَ مِن نفاقِهم، وليُرتب عليه قولَهم الآتي: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).

فهم إذا لَقوا المؤمنين قالوا آمنّا، وأظهروا الإيمانَ استهزاءً بالدينِ، واستخفافًا بأهلِه، لينالُوا بالتظاهرِ بهِ رضَا المؤمنينَ، ويؤمِّنوا لأنفسِهم أطماعًا مِن الدنيا، يتسترون في الوصول إليها بالإسلام.

وجِيءَ في اتصالهم بالمؤمنينَ بالفعل (لَقُوا)، الدالِّ على المصادفةِ والندرة؛ ليدل على كراهيتهم لقاءَ المؤمنين، وعلى أنه لا يكادُ يحصلُ لهم إلّا إذا أُلجِئوا إليه عَرضًا، وعلى أنّ هذا التظاهرَ الكاذبَ بالإيمانِ، معَ أنّه نفاقٌ وزيفٌ، لا يقعُ منهم إلا قليلًا، عندَما يلتقُون بالمؤمنينَ، دونَ قصدٍ.

أمّا إعلانُهم الكفرَ وبقاؤُهم على النفاقِ والتصريحُ بذلك لشياطينهم، فهو دَيْدَنُهم وغايتُهم التِي ينتهونَ إليها، وهو ما دلّ عليهِ الفعلُ (خَلَوا)، المتعدّي بـ (إلى)، التي تفيدُ بلوغ الغايةَ وانتهاء الأمر منهم إلى مداه.

وجيءَ في ادعائهم الإيمان بالجملة الفعلية (آمَنّا)، خاليةً مِن المؤكِّد؛ لأنّهم نزلُوا أنفسَهم منزلةَ خالِي الدهنِ البَرِيءِ، الذي يُصدَّق دون حاجةٍ إلى تأكيدٍ، ولا يُتّهم في قوله، وعندَما أَتوا إلى شياطينِهم، خاطَبوهم بالجملةِ الإسميةِ (إنَّا مَعَكُم)، المؤكدةِ والدالةِ على الثبوتِ؛ ليُمهِّدوا للاعتذارِ لشياطينِهم، عن إظهارِ الإسلامِ إذا لَقُوا المؤمنينَ، حتى لا يَتَوهّم الشياطينُ أنّهم أسْلَموا حقًّا.

(إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون): استهزَأَ؛ مِن الاستهزاءِ، بمعنَى السخريةِ والاحتقارِ واللعبِ، والزيادة في الفعل للمبالغة والتأكيد، والهُزءُ إظهارُ الجدّ وإخفاءُ الهزلِ، أي: مستَخِفُّون مُستهزئُونَ بالمؤمِنين.

(اللهُ يَستَهزِئُ بِهِم): الله يُنزلُ بِهم مَا يستحقُّون مِن أنواعِ الهوانِ والمذلَّةِ المتلاحقةِ المتجددةِ، ممّا لا يخطرُ بِالبالِ.  

فقد دلَّ الإتيانُ بالفعلِ (يَستَهزِئُ بهِم)، دونَ الاسمِ مُستَهزِئ - الذي يدلُّ على دوامِ الاستهزاءِ واستمرارِه ـ على تجددِ وقوعِ المكروهِ بهم، وتنوعِه عليهم، لا أنَّه دائمًا على وصفٍ واحدٍ.

وفي إسنادِ الاستهزاءِ بهم إلى اللهِ دون الملائكةِ، ما يدُلّ على العنايةِ بنصرةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حين يعلَمون أنّ الذي يتولّى أمرَهم هو الله تعالَى بنفسِه جلّ جلالُه.

وجاءَ تقديمِ المسندِ إليهِ، لفظ الجلالة (اللهُ يَستَهزِئُ بِهِم)، دون (يستهزِئ اللهُ بهم)، )، للتعجيلِ بما يسرُّ المؤمنين، وهو أنّ الذي يتولّى نُصرتَهم هو اللهُ تعالَى، وفي ذلك مِن وقوعُ الرهبةِ في قلوبِ المنافقين، وتحقق هلاكِهم، وتأكيدُ النّصرة للمؤمنينَ مَا لا يَخفَى.

وسُمّي جزاءُ الاستهزاءِ - وهوَ إنزالُ الهوانِ والعذابِ بالمنافقينَ - استهزاءً؛ مِن بابِ المُشاكلة والازدواجِ في الكلام، باستعمالِ مَا يُماثلُ اللفظَ السابقَ، عندَما يكونُ جزاءً له وجوابًا، والمُشاكلةِ هيَ ذكرُ الشيءِ بلفظ غيرِه؛ لوقوعِه في صحبتِهِ وجوارِهِ، كما في قولِه تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)[1]، ومنه قول الشاعر:

قَالُوا اقترِحْ شيئًا نُجِدْ لكَ طبخَهُ       قُلْتُ اطْبخُوا لِي جُبّةً وقميصًا

والمُرادُ خِيطُوا لِي، ولكنّه استعمل لفظهم مجاراة لهم، وقولُ عَمرو بنِ كلثُوم:

ألَا لَا يَجهَلَنْ أحدٌ علينَا           فنَجهَلَ فوقَ جهلِ الجَاهِلِينَ

أرادَ أن يفتخرَ بقدرتِه عليهم، فعبّرَ عن ذلكَ بالجهلِ، والجهلُ لا يَفتَخِرُ بهِ أحدٌ، ولكنه استعملَ لفظَهم مِن بابِ الازدواجِ في الكلامِ والمُشاكلة؛ ليكونَ أخفّ على اللسانِ، ويكثرُ هذا في الجزاءِ، إذا وُضعَ إزاءَ لفظٍ جوابًا له، كما في قوله تعالى:

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ)[2]، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا)[3]، واللهُ تعالى لا يكونُ منهُ مكرٌ ولا كيدٌ، وإنّما هو جزاءٌ لمكرِهم وكيدِهم، جاءَ التعبيرُ به على ما عرفتهُ العربُ في هذا البابِ مِن المشاكلة، طلبًا لخفةِ الكلامِ، ومنه: (وإنْ عَاقَبتُم فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبتُم بِه)[4]، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ...)[5]، فالقصاص مِن المعتدِي ليسَ عُدوانًا، وإنّما هو حقٌّ واجب.

وفي الصحيحِ مِن حديث عائشة رضي الله عنها: (إِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)[6]، والمرادُ: لا يَقطَع عنكُم ثوابَ العملِ حتّى تقطَعُوا العملَ.

ومِن استهزاءِ اللهِ تعالَى ومكرهِ بالكافرينَ إحسانُه إليهم، وإنعامُه عليهم بالنعمِ الوافرةِ، مع تكذيبِهم وكفرِهم، بل إنه تعالَى مِن خِذلانِه إيّاهم، كلّما أحدَثوا ذنبًا أحدثَ لهم نعمةً، وفتحَ لهم مِن أبوابِ كلّ شيءٍ، وأمْلَى لهم فانخدَعوا، وظنُّوا بأنفسِهم خيرًا، كما قالَ تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[7]، وقال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[8].

قوله: (ويَمُدُّهُم): يزيدُهم ويُملِي لهُم، وأصلُ المدِّ الزيادةُ والإطالةُ، أي: يُطيلُ لهم المدةَ، ويزيدُهم في النِّعم؛ كما قال تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[9].

ومِن أهلِ اللغة مَن يُفرقُ بينَ مَدَّ وأَمَدَّ، فيجعلُ مدَّ - مِن الثلاثِي - تُستعملُ في الشرِّ كمَا هنا، وأَمَدَّ تُستعملُ في الخير؛ كما في قوله تعالى: (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ)[10]، ومنهم مَن يجعلُهما بمعنى واحدٍ، ويدلُّ له قراءةُ نافع: (وَإِخْوَانُهُمْ يُمِدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)[11]، فاستعمل الرباعي في الغي.

(فِي طُغيانِهم): في كُفرِهم وضلالِهم، والطغيانُ: مجاوزةُ الحدِّ في الفسادِ، ومنه قولُ اللهِ عن فرعون: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)[12]، أي أسرفَ وجاوزَ الحدّ في جرأتِه على الله تعالى، حتَّى قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[13]، والمرادُ بطغيانهم هنا غلوُّهم في الكفرِ والنفاق، وأضيفَ الطغيانُ إليهم، ليدلَّ على أنّه مِن عملِهم وكسبِ أيديهم، ردًّا على قولِهم، وقولِ غيرِهم مِن الملاحدة: (لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا)[14].

 

[1] [الشورى:40].

[2] [آل عمران:54].

[3] [الطارق:15،16].

[4] [النحل:126].

[5] [البقرة:194].

[6] [الموطأ:258،البخاري:43،مسلم:1870].

[7] [الأنعام:44].

[8] [القلم:44،45].

[9] [آل عمران:178].

[10] [الإسراء:6].

[11] [الأعراف:202].

[12] [طه:24].

[13] [النازعات:24].

[14] [الأنعام:148].

التبويبات الأساسية