المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 151- سورة آل عمران

 بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (151).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)[آل عمران:4-7].

 

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) حكمَتِ الآيةُ على الذين كفروا بالعذابِ الشديدِ، وعلةُ الحكمِ وسببُهُ هو كفرهم بِآيَاتِ اللهِ، التي هي آياتُ القرآنِ()، فبعد أن بيّن سبحاَنه أنه هو الذي أنزلَ القرآن، حذَّر من مغبّة الكفرِ به، فمَن كفرَ به سواء كان مِن المشركين أو اليهودِ والنصارى، أو من غيرهم، فجزاؤه ما أخبر الله به (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) على كفرهم().

 

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) الانتقامُ: عقابٌ شديدٌ على الإساءة والإجرام، وفعله نَقمَ كعَلِمَ وضَرَبَ، وإذا كانَ الانتقام بين البشرِ فإنه يكونُ مصحوبًا بغضبٍ وهيجان، أمّا  مِن اللهِ فهو عن اختيارٍ وملكٍ وعدلٍ ومصلحةٍ، لا كمَا عندَ الناسِ؛ تدفعُهُ غريزةُ التشفّي، وثورة الغضب، وفي إضافةِ الانتقامِ إلى (ذُو) الدالة على الملك والمصاحبة، ما يدلُّ على المبالغة في العقابِ، وأنه انتقامٌ ليسَ مثله انتقامٌ، فلا يقالُ لمن عنده مال ذو مالٍ إلَّا إذا كان يملكُ مالًا كثيًرا، ولا لمن عنده سيفٌ ذو سيفٍ إلا لمن يُكثر القتلَ به، لا لمجردِ أنّ له سيفًا، ثم ذكرَ - زيادة في التخويفِ والتحذير - أنّ الذي يتولى هذا العذابَ هو العزيزُ، الذي لا يُغلب، فَلا يُفلتُ منه أحدٌ أرادَهُ بالعقابِ.

 

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) إخبارٌ بعلمه المحيط، الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، لا في الأرضِ ولا في السماءِ، لا في العالم السفليّ، ولا في العالم العلويّ، عليمٌ بكلّياتِ الأشياء وبجزئياتِها، وقُدمت الأرضُ على السماء ترقيًا مِن الأدْنى إلى الأعلى، على القاعدةِ عندما يُراد نفيُ شيئينِ يتفاوتانِ فيما سيقَ له النفي.

 

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) التصوير: الخلق على هيئة وصورة، و(الأَرْحَامِ) جمع رحم، وهو الوعاء الذي يخلقُ اللهُ فيه الجنين (كَيْفَ يَشَاءُ) كيف هنا اسمٌ يدلُّ على الحالة والكيفية التي يتم عليها الخَلق، وأفادت بما بعدها - وهو يشاءُ - العموم والشمول لكل الأحوالِ والكيفياتِ التي يشاؤها الله()، والعامل فيها (يُصَوِّرُكُمْ) فيدخلُ في قيّوميةِ اللهِ، التي تقدمَ وصف نفسِه بها سبحانه؛ أنه يخلقُ الأجنةَ في الأرحامِ كيفَ يشاء، كما قال تعالى: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)() ويصورُها على كثرتها الهائلةِ على صورٍ متباينةٍ، لا يشتبهُ بعضُها ببعضٍ.

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) الكتابُ هو القرآن، وتعريف الجزأين المبتدأ والخبر في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) يفيدُ الحصر، فلا أحدَ غير الله أنزلَ القرآنَ، كمَا يزعمُ من يقولون أساطيرُ الأولين، ويعلمهُ بشر.

وتأكدَ هذا القصرُ والتخصيصُ بإردافهِ بفعلِ (أَنْزَلَ)؛ لأنّ الإنزال لا يكون إلا من الله، فهو في معنى الوحي، وليس بمعنى الإتيان ونحوه، فهو إنزالُ وحيٌ؛ ليس بقول شاعرٍ، ولا بقول كاهنٍ، ولا أساطير الأولين اكتتبها، بل هو منزل من عند الله (مِنْهُ) أي منَ القرآن (آيَاتٌ) جمع آية، وهي الجملة القرآنيةُ (مُحْكَمَاتٌ) جمع محكَم، والمحكَمُ مِن معانيه المتقَن النّظمِ، السالمُ مِن فساد المعنى، وركاكةِ اللفظِ، كما في قوله تعالى: (الٓر كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُ)()، والمحكمات هنا معناها أنها واضحةُ الدّلالة، بيّنةُ المعنَى، وهذهِ الآياتُ المحكماتُ، الواضحةُ الدلالةِ وضوحًا بيِّنًا في القرآن، هي التي بيَّنتْ أصول العقائدِ، وأصولَ التشريعِ والأحكام، وأصولَ الآدابِ والأخلاقِ، وما يتبع ذلك من الأخبارِ والمواعظ، فأصول هذه الأبواب أتَتْ واضحةَ المعاني، بيّنة الدّلالة في القرآن، ليس بها خفاءٌ ولا تشابه، وتطلق المحكماتُ أيضًا على ما لم يتطرقْ إليه النسخُ.

(هُنَّ) أي المحكماتُ (أُمُّ الْكِتَابِ) أمُّ الشيء: أصله الذي تجتمع إليه أجزاؤه، وتلتفُّ حوله، ومنه سميت الراية أمًّا؛ لأنّ الجيش ينضمّ تحتها، ويلوذُ بها للدفاع عنها، والقياسُ أن يقالَ: هنَّ أمهاتُ الكتابِ، وأُفردتْ فقيلَ أمُّ الكتابِ؛ لأنّ كلّ آيةٍ منها هي أصلٌ وأمٌّ بنفسِها.

 (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) ومنه آياتٌ أُخَرُ()، ليست أكثر القرآنِ ولا معظمَه، جاءتْ متشابهةً، والمتشابهُ من معانيه: المتجانسُ الذي يصدقُ بعضه بعضًا، فلا يتناقضُ، ويشبه بعضهُ بعضًا في بلاغته، وجزالةِ لفظِه، فلا يتنافرُ، وهو بهذا المعنى يطلقُ على كلّ القرآن، كما قال تعالى: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)() وهو معنى آخر للمتشابِهِ غير الذي في هذهِ الآيةِ.

والمتشابهُ في هذهِ الآيةِ له معنيانِ: الأول: الذي لا يُعلم معناه على الإطلاقِ، واستأثرَ الله تعالى بعلمِهِ، كخواصِّ الأعدادِ الواردة في القرآنِ؛ كعددِ زبانيةِ النار، وعددِ حملةِ العرش، وهذا المعنى للمتشابهِ يناسبُه الوقوفُ على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ).

والمعنى الثاني للمتشابه: هو الخفيُّ الذي لم يتضحْ معناه، ويكدّ فيه الراسخون في العلم أذهانَهم؛ لبيانِ معانيهِ، وردّه إلى المحكَم الواضحِ، كمَا في إثباتِ الصفاتِ السمعية للهِ سبحانه، على ما يليقُ به، دون خوضٍ في كيفياتِها، عملًا بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)()، وكما في الأوصافِ التي تعلقَ بها النصارَى في ألوهيةِ عيسى، بأنه روحُ الله، وأنه يُحيي الموتى، وأنه كلمةُ الله، ونحو ذلك، وأهلُ الزيغِ مِن الباطنيةِ والمبتدعةِ والمستشرقينَ اليومَ، يتعلقونَ بالمتشابه بهذا المعنى؛ ابتغاءَ الفتنةِ، وابتغاءَ تأويلهِ على غيرِ وجههِ.

وقد نزلت آياتُ هذه السورة مِن أولها إلى الآية الرابعةِ والثمانين في الردِّ على فريقٍ من النصارَى، وهم نصارَى نَجران، الذين جاؤُوا إلى المدينةِ لهذا الشأنِ، وبيانِ أنّ الذي تعلَّقُوا بهِ إنّما هو من التعلقِ بالمتشابهِ.

 

التبويبات الأساسية