المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 107- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (107).

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) [البقرة:204-206].

(وَمِنَ النَّاسِ) مِن تبعيضية (مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) مَن موصولةٌ، تصدُقُ على غيرِ معينٍ، فتعمُّ كلَّ مَن يقع منه مثلُ هذا الأمر (يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) يحسُنُ لديكَ كلامُه عند سماعِه (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) متعلقٌ بيعجبك، أي: استحسان كلامِ الواحدِ منهم مصحوبٌ ومتعلقٌ بالحياةِ الدنيا، تنتهي صلاحيتُهُ بانتهائها، فإذا ما انتهت الدنيا كانتْ له حال أخرى بئيسةٌ، تسيءُ كلّ مَن يراها، كما قال تعالى عن صاحبها: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) هذا إذا تعلق الظرف (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بـ(يُعْجِبُكَ)، وإذا تعلقَ الظرف بـ(قَوْلُهُ) فيكونُ محل الإعجابِ بالقولِ ذاته؛ إمّا لما يتظاهر به صاحبُه من إظهار النصحِ ومودةِ المسلمينَ، والحرصِ على الدين، ممّا يقع استحسانُه لدى كلّ مسلمٍ حريص، وإمّا لِما أوتيه صاحبه في الدنيا؛ مِن فصاحةِ الكلامِ، وبهرجة القولِ، ولحن الخطابِ، يستولي به على العقولِ لدى السامعينَ، ويسلس له قيادهم، ثم يصنعُ بهم ما يبيّتُه من السوءِ والفساد، ممّا يخالفُ قولَه، ويُظهر خداعَه. كما قال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا)، وهذا كلّه مِن أعمالِ النفاقِ، للوصول إلى الدنيا والوجاهةِ، والترأسِ باستعمال القيم والمبادئِ والدِّين (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) إمعانًا في الخداعِ؛ ليغتر السامعُ بقوله، يشهدُ اللهَ على نفسِه ويحلفُ بالله، أنه لا يريدُ إلا الخيرَ، وأنه صادقٌ ناصحٌ، وأنّ ما في قلبه هو ما يقولُه بلسانه (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) وهو في الحقيقة شديدُ الخصومة، مخادعٌ ماكرٌ، مِن لدَّ يلَد كعلم يعلَمُ، ويُجمع على لُدّ، قال تعالى: (وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا)( )، وهي صفة، ومؤنثهـا لدّاء كأحمر وحمراء، و(الْخِصَامِ) إذا اعتبرناه مصدرًا تكون إضافة (أَلَدُّ) إليه على معنى (في)، أي شديدٌ في الخصومة، كقوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)( )( ). وإذا اعتبرنا الخصام جمعَ خصمٍ، ككلبٍ وكلابٍ، وصعبٍ وصِعابٍ، وليس مصدرًا، يكون المعنى: وهو كأشدّ خصومةِ وعداوةِ المخاصمينَ عداوةً وخصومةً. (وَإِذَا تَوَلَّىٰ) يمكنُ أن يكون اشتقاقه من الولاية، بمعنى إذا صارَ واليًا، وغلبَ وترأس على الناسِ، في ولايةٍ كانَ قد مهَّدَ لها بكلامِه السالفِ، الذي حسنه عندما كانَ يروجُ لنفسهِ، كما يفعل في عصرنا من يسوّق لنفسه، ويدعو الناس إلى انتخابه، ويمكن أن يكونَ مشتقًّا من التوليةِ، بمعنى المفارقةِ والانصرافِ عما كان فيه مِن التكلفِ وتحسينِ الكلام المنمقِ، الذي يعجبُ سامعَه، بأن عادَ إلى حقيقة حالهِ، من الفسادِ الذي يخفيه، أي: إذا تمكنَ وترأس ظهرت حقيقته، وفارق ما كان عليه من الكلام المنمق (سَعَى فِي الْأَرْضِ) بالفساد، أصل السعي الجدُّ في السير؛ كما قال سبحانه وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ)( )، وهو هنا سيرٌ حثيث بالأقدامِ للفسادِ؛ بانتهاك الحرماتِ، وقتل الأبرياءِ، مصحوبٌ بسعيٍ آخر بالتخطيط والتدبيرِ، والمكر بالآخرين، والعزم على الفساد (لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) الفساد: عام في إتلاف كلّ ما نفعُه محققٌ، كحرق المال وقطع النقود، والتعدي على شبكات الاتصالِ بالإتلافِ، وقطع أسلاك الكهرباء بسرقة الكوابل، أو التعدي على شبكات المياه، وإتلاف الآبار ونحو ذلك، وضدّه الإصلاحُ بإتلاف ما ضررُه محققٌ، كإتلاف الهوام والحيات الضارة، والخمور والمسكِرات، ومنه الأخذ على أيدي قطاع الطرق والجناة، وإقامة الحدود، وتدمير الأسلحة الجرثومية، واللام في (لِيُفْسِدَ) للتعليلِ، تدلّ على أنه فسادٌ مقصودٌ، وهو فسادٌ عارم، يأتي على الزرع والضرعِ، بالحرق والتقتيلِ، وتخصيصُ الحرث والنسل بالذكر؛ لأنّ بهما قوامُ الناس، لا لأنّ الفسادَ ينحصرُ فيهما. فالفساد في الأرض يشملُ تدمير أو تحريق ما ينفع الناس، مما تقوم به الحياة، في كل وقت بحسبه، ويدخلُ فيه كذلك فعلُ كلّ ما يضرُّ بهم، يقينًا أو ظنًّا، كالنهبِ والسرقةِ، وإقفال الطرق، والتحايل على الأموال العامة، وتعطيل الخدمات في الدولة، في مؤسساتها المالية أو الإدارية، التي مِن خلالِها يصلُ الناسُ إلى حقوقِهم، وإلى قضاءِ حاجاتِهم. ويدخلُ فيه ما يفعلُه وُلاةُ السوءِ، مِن الجور والظلم، وانتهاكِ الحرماتِ، وغصبِ الأملاكِ، وإقرارِ المحرمات التي حرّمها الله تعالى؛ كالربا والخمورِ والميسرِ والزنا، والرّضى بها، ممّا قد يمنعُ اللهُ به خيراتِ السماءِ، وقد يقعُ على الناسِ العقابُ بسببِها، فيصيبُهم ما ذكرتْه الآية، مِن القحطِ وإهلاكِ الحرثِ والنسلِ (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) ولأنّ الله تبارك وتعالى لا يُحبُّ الفسادَ، فقد يعجلُ العقوبة لأهله. نزلت هذه الآياتُ في المنافقينَ، قيل في الأخنسِ بنِ شريقٍ الثقفي، وقيل في المنافقين عمومًا، وكان الأخنسُ حسنَ المنظرِ، حلوَ المنطقِ، يُظهر موالاةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أغارَ بمن معه على زرع بعضِ الناسِ، قيل من المشركينَ، وقيل من المسلمينَ، فأحرقَ زرعَهم، وقتلَ مواشيهم، فخالف فعلُه ما كان له مِن حلاوة الكلام، والمودة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وهو يدل على أنّ إتلافَ المالِ تعديًا بغير وجه حقّ هو من الفسادِ، ولو كان المالُ لغير مسلمٍ. (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ) حملته (الْعِزَّةُ) الأنفة والكبرياء والحمية (بِالْإِثْمِ) الباء للتعدية، وفيها معنى الملابسةِ، أي: إذا ذُكّر وأُمر بتقوى الله غضبَ وتغيرَ، ورأى نفسه أنه أرقَى وأتقى وأرفعُ حالًا ممَّن ذكَّره ونبَّههُ، فتحمله الحميةُ والأنفة والكبرياءُ على التلبسِ بالإثمِ والوقوعِ فيه؛ لإيثاره عزةَ نفسه بالباطل، على الحقِّ الذي فيه مرضاةُ ربّه (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) حسبُ بمعنى كافٍ، أي: كافيته جهنم، مبتدأٌ وخبرٌ، أو كفتْه جهنم، على أنّ حسب اسمُ فعل ماضٍ، وجهنمُ فاعلٌ سدّ مسدَّ الخبر، و(جهنمُ) علمٌ على دارِ العذابِ الموقدةِ نارًا، واسمها ممنوعٌ من الصرفِ للعلمية والتأنيثِ، ومن معانيها التي استعملتها العربُ: البئر البعيدة القعر، و(بئسَ) مِن أفعالِ الذم، والمهاد: الفراش الذي يمهدُ للنائم ليستريح عليه، وهي المضاجع التي تكون عادة للراحة، وسُمّيت مهادًا وهي من النارِ مِن بابِ التهكمِ؛ ليزدادوا حسرةً، والمخصوصُ بالذم: جهنمُ، أي: بئسَ الفراشُ لهم جهنم فراشًا.

التبويبات الأساسية