المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 8 - سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (8)

فضلُها:

سورة (البقرة) هذا هو اسمها، الذي سماها به النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: (آيتانِ مِن سورةِ البقرةِ، مَن قرأَ بهمَا في ليلةٍ كفتاهُ)[1]، وتسمى (فُسطاطَ القرآن)، لعظمها وعظمِ ما تضمنته مِن أحكامٍ وأخبار، أقامَ ابن عمرَ رضي الله عنهما على حفظِها وفقهِها وتعلّمها ثماني سنين، ومما جاء في فضلها عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ، تحاجَّان عن أصحابهما)[2].

وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (اقرَؤُوا البقرةَ؛ فإنّ أخذَها بَركةٌ، ولا تستطِيعُهَا البَطَلَةُ)[3]، وفي حديث آخر: (الْبَقَرَةُ سَنَامُ الْقُرْآنِ وَذُرْوَتُه)[4]، وسَنام كل شيء أعلاه.

البقرةُ مِن أول سور القرآن نزولا بالمدينةِ بعد الهجرة؛ لأن مِن آياتِها الإذن بالقتال وفرض الصيام، وكان ذلك في السنة الثانية، وهذا لا يعني نزولَ السورة كلّها بأكملِها في تلك السنة، بل الظاهرُ بدءُ نزولِها في أول الهجرة، ثمّ تتابعَ نزولُها إلى السنة العاشرة، ففيها أحكام الحجّ، وفرضه كان متأخرًا، وبها آخر آيات القرآن نزولا؛ منها آيات الربا، نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وما بعده، وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه)[5]، آخر آيات القرآنِ نزولا، لمْ يعِشْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَها إلا أيامًا قليلةً، قيل: ثلاثة، وقيل: سبعة، وقي​ل: واحد وعشرون يومًا)[6].

(أَلَمِّ): في القرآنِ تسع وعشرون سورة افتتحت بالحروف المقطّعة؛ (ألم) (حم) (طسم)، وهي مِن المتشابه، فمِن السلفِ مَن ذهب إلى الإيمان بها والسكوت عنها، وإمرارِها كما جاءت، دون تعرّض لتأويلها وتفسيرها؛ لأنّها مما اختص الله تعالى بعلمِه، ومِن السلف من تأوّلها، واختلفوا في ذلك على أقوالٍ كثيرة؛ منها: أن (ألم) اختصار لجملة (أنا أعلَم)، وقد تكلمت العرب بهذا الاختصار، ومنه: (كفى بالسيف شا)، أي: شاهِدًا، وفي الحديث: (مَن أَعَانَ على قَتلِ مسلمٍ بشطرِ كلمةٍ...)[7]، قال شقيق: قال في أقتل: أق.

ومنها: أنّها من أسماءِ الله تعالى، أقسمَ بها، ويَرِدُ عليه أنّ بعضَها أُتبعَ بالقسم، مثل: (قَ والقُرآنِ...)[8]، وقد كرِهوا جمعَ قَسَمَين على مُقسم واحدٍ، وأُجيبَ بأنّ الواوَ الثانية عاطفةٌ، وليست للقسم، على أنّ العربَ جمعت بين قَسَمين؛ كما في قول النابغة:

وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَنِعْمَ الْفَتَى الْ     حَارِثُ لَا النَّكْسُ وَلَا الْخَامِلُ

وليس في تفسيرِ حروفِ أوائلِ السور شيءٌ يشفي، أو يَسْلمُ مِن إيراد، فالأَوْلَى الإيمان بها، والإمساكُ عنها، وتفويضُ علمِ مرادها إلى الله.

(ذَلِكَ الكِتَابُ): اسمُ الإشارةِ (ذَا)، والكاف للخطابِ، واللام للكمال، والإشارةُ المقترنة باللام تكون للبعيد، والبعد هنا رتبي، وليس حسيًّا؛ لأن القرآن نزلت بعضُ سورِه قبل البقرة، فهو حاضرٌ معروفٌ في أذهان المخاطبين، والحاضر اسم الإشارة إليه (هذا) التي للقريب، واستعمالُ إشارة البعيدِ (ذلك) مكان الحاضر القريب (هذا) وعكسه سائغٌ، واردٌ في القرآن، قال تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)[9]، ثمّ قال بعدهُ متصلًا به: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)[10]، ومنه: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[11].

واستعمالُ أحد الاسمينِ مكان الآخر في الكلام الفصيح يكون لفائدة زائدة، وهي هنا الدلالة على تعظيمِ شأن القرآن، وعلوّ منزلته، ورفعة شأنه، كما تقول في التنويه بالعالم أو الكريم، وهو معك حاضر، تشير إليه بالبعيد: ذلك - واللهِ - العالِمُ، ذلك - واللهِ - الكريمُ، ثم لمزيدِ التنويه بعظمة القرآن، جاء التعبير عنه باسم الإشارة، دونَ الضميرِ (هو)، ليفيد أنه في حضوره كالمحسوسِ المشارِ إليه.  

و(الكِتَابُ) على وزن فِعال، بمعنى مَكتوب، كلِباسٍ بمعنى مَلبُوس، ومادة كَتَب تدل على الضم والجمعِ والتأليفِ؛ لأنّ الكتابَ تُضم فيه الأوراقُ والحروفُ والمعاني، بعضُها إلى بعض، وفي تسميةِ القرآن كتابًا تنبيهٌ على أن مِن وسائل حفظِه الكتابة، وأنّه يجبُ أن يُكتبَ ليُحفظَ.

 


[1] [البخاري:4008،مسلم:807].

[2] [مسلم:804].

[3] [مسلم:804].

[4] [المسند: 19828].

[5] [البقرة:281].

[6] [فتح الباري:8/317].

[7] [ابن ماجه:2620، وضعفه أحمد].

[8] [سورة ق:1].

[9] [آل عمران:58].

[10] [آل عمران:62].

[11] [السجدة:6].

التبويبات الأساسية