المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 56 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (56).

 

(ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ).

(ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) أنتم هؤلاء مبتدأ وخبر، وتقتلون في موضع حال، والخطاب لليهود الحاضرين وقت نزول القرآن؛ لأنه أشير إليهم بهؤلاء، والإشارة إنما تكون لحاضر لا لغائب.

وفائدة الإشارة إليهم، بعد ذكرهم بضمير الخطاب (أنتم)، للتعجب من فعلهم في قتل أنفسهم، وإخراج فريق منهم من ديارهم، وهو استعمال شائع في التعجب، كما في قوله تعالى: (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[1] وقوله: (هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ)[2]، خاطبهم القرآن بأسلوب التعجب من حالهم، حيث لم يفِ الذريةُ والأتباعُ بما أُخذ على الأسلافِ مِن العهدِ والميثاق، ها أنتم يا يهود تنقضونَ العهدَ، ويقتلُ بعضُكم بعضًا، في حروبٍ وتحالفاتٍ جاهليةٍ (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم) تُناصرونَ الأحلافَ وتعينونهم، فتحالف يهودُ قينقاعَ معَ الأوسِ، ويهودُ قريظةَ والنضير مع الخزرَجِ، في حربِ بعاثَ قبلَ الهجرةِ.

(بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) الإثم فعلُ كلّ ما يُذمّ، (والعدوان) الإفراطُ في الظلم، ومنهُ القتلُ؛ فقاتلَ قينقاع - الذينَ كانوا مع الأوسِ - قريظةَ والنضير - الذين كانوا مع الخزرج - وأخرجوهم من ديارهم، وكذلك فعل الفريق الآخر، ولما رُفعتِ الحربُ جمعَ يهودُ الفريقينِ المالَ؛ لفداءِ أسراهم مِن الجانبينِ، وتضامنوا معهم، فقالت لهم العربُ: تقاتلونهم وتخرجونَهم من ديارهم، ثم تفدونَهم بأموالِكم، فأجابوا: حُرّم علينا قتالُ اليهودِ، ولكن لا نقدرُ أنْ نخذلَ حلفاءَنا، وأُمِرنا أن نفديَ أسرانا.

وكان اللهُ تعالى قد أخذ عليهم أربعةَ عهودٍ: ترك القتلِ، وترك الإخراج، وترك المظاهرةِ، وأمرهم بفداءِ أسراهم، فأعرضوا عن كلِّ ما أُمِروا به إلّا الفداء، فوبخَهم اللهُ على ذلكَ بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) وهو التوراة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)!

قال القرطبي في التفسير، وهو يشكو إلى الله حال المسلمين في أيامه: (ولعمرُ اللهِ لقد أعرضْنا نحنُ عن الجميعِ بالفتنِ، فتظاهرَ بعضُنا على بعضٍ! ليس بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلّاء صاغرينَ، يجرِي عليهم حكمُ المشركين، فلا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله العليّ العظيم)! هذا في أيامِهِ، والحالُ في أيامنَا أشدُّ.

(وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) أُسارَى: جمعُ أسيرٍ، كقديم وقُدامَى، أو جمعٌ لأسرَى، فيكونُ مِن جمعِ الجمع، واشتقاقُه مِن الأسْرِ بمعنَى الوِثاق، ويقالُ للسيرِ الذي يوثق به: إسارٌ (تُفادُوهُم) مِن الفديةِ، وهي دفعُ المالِ في تخليصِ الأسيرِ (وهو) أي: الحالُ والشأنُ، أو الإخراجُ من ديارِهم (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) المحرمُ: الممنوعُ بالشرعِ منعًا شديدًا، وهو عند الأصوليين ما يذمّ فاعلُه، و(ِإخْرَاجُهُمْ) مبتدأٌ، و(محرمٌ) خبرٌ مقدَّمٌ، أو (إخراجُهُم) نائبُ فاعلٍ سدَّ مسدَّ خبرِ (محرمٌ) على إعرابِه مبتدأ.

والآية تذكرُ التعجبَ من تناقضِهِم مع أنفسُهم؛ نُهُوا عن قتالِ إخوانِهم وإخراجِهم من ديارهِم، فقاتَلُوهم وأخرجُوهُم، ثم عندمَا وقعُوا في الأَسْر دفَعُوا عنهم المالَ وفدوهُم.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) التوراة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) والاستفهامُ إنكارٌ على تناقضِهِم بفعلِ الأمرينِ معًا، إذ ليسَ فداءُ الأسرَى على حدةٍ في ذاتِهِ مُنكرًا، فالمنكرُ المتمثِّلُ في الإيمانِ ببعضِ الكتابِ والكفرِ ببعضٍ، يُتصوَّرُ في الجمعِ بينَ الأمرينِ معًا؛ قتلهم وفداؤهمْ، على حدِّ قولِ اللهِ تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)[3] وجاء التعبير بالمضارع (تقتلونَ) و(تخرجونَ) لاستحضارِ الصورةِ، وأنّهم مستمرّونَ على هذا الفعلِ المذمومِ، كما يدلّ على إِطماعِهِم في التوبةِ، وأنها لا تزالُ مرجُوَّةً.

(فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الخِزْيُ: الذلُّ والمهانةُ، وقد أصابَ يهودَ بني قريظةَ الذلُّ بقتلِهم، ويهودَ بني النضير بإجلائِهِم، ويهودَ خيبرَ بفتحِها للمسلمينَ، هذا ما أصابَهم في الدنيا مِن المذلّةِ (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) فيها وعيدٌ لكلِّ مَن حادَ عن الطريقِ، وعاند الحقّ، واستبدلَ حطامَ الدنيا بنعيم الآخرة، فأخذ الرخيصَ وتركَ النفيسَ، توعدَه اللهُ تعالى بعقوبةٍ عاجلة في الدنيا، تُذلّهُ وتُخزيهِ، قبلَ العذابِ الدائم في الآخرةِ.

فليس اللهُ بغافلٍ عن عمل المفسدينَ، وإن لمْ يُعاجِلْهم بالعقوبةِ حالَ تهالُكِهم على المعصيةِ، لكنّ أمرهُ نافذٌ في أجلِهِ، وإذا أخَذَهم فأخذُ عذابِه أليمٌ شديدٌ، ليس فيه راحةٌ ولا تنفيسٌ، ولا مدافعٌ ولا نصيرٌ (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ).

 

 


[1] [النساء:109].

[2] [آل عمران:119].

[3] [البقرة:44].

التبويبات الأساسية