بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (102).
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة:194-195].
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ) الشهر الحرام الذي جعل الله له حرمة بتحريم القتال فيه، هو كغيره من شهر حرام آخر، قدرهما واحد، وحرمتهما واحدة، فاللام في الشهر للجنس، تجعله يصدق على كل شهر حرام.
والباء في قوله (بالشهر) للعوض، أي: هذا الشهر الحرام الذي تستحلون فيه العدوان على المسلمين، بذاك الذي مِن حق المسلمين أن يردوا فيه عدوانكم.
وكما أن للأمكنة حرمة حرم الله فيها القتال، ولم يبحه إلا دفاعًا عن النفس، كما تقدم في قوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) جعل الله تعالى كذلك للأزمنة حرمة، لا يباح فيها القتال إلا دفاعًا عن النفس، فإذا ما اعتدى فيها العدو على المسلمين، ثم أراد أن يحتمي بالحرَم أو بالأشهر الحرم، ليهرب بجرائمه؛ لعلمه بأن المسلمين يراعون حرمة الزمان والمكان، ويكفون فيها عن القتال، فإنه يقال له: حرمةٌ كحرمةٍ، فالشهر الحرامِ الذي تعتدون فيه، هو من جنس الشهر الحرام الذي يرد عدوانكم فيه، فهما شيء واحد، وحرمتهما عند الله واحدة، فما الذي أحله لكم وحرمه على غيركم دفاعا عن أنفسهم؟!
وهذه الآية في حرمة الزمان والتي قبلها في حرمة المكان بتقييدهما بعدم العدوان، تدلانِ على أنّ حرمةَ الإنسانِ عند الله أعظمُ من حرمةِ الأمكنةِ والأزمنةِ، وقد وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم عندما رجعوا في العام السابع ليدخلوا مكة في عمرة القضية، وكان ذلك في الشهر الحرام ذي القعدة، خافوا أنْ يصدّهم المشركونَ مرةً أخرى، كما صدُّوهم في الحديبية، ولا يقدروا على قتالِهم، لأنهم في شهرٍ حرام، فقيل لهم: لا تخافوا هذا، فهم أيضًا منعوكم عام الحديبيةِ من العام السادسِ في شهرٍ حرامٍ، والحرمة واحدةٌ، كما قال سبحانه وتعالى: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) فالحرمات متماثلةٌ متساوية، حرمةٌ كحرمة، إنِ اعتدَوا عليكم فيها فعاملوهم بالمثل، كما فعلوا معكم (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) ما دامت الحرمات واحدة أَذنَ اللهُ أن يُقتصَّ فيها من الظالمينَ، فمَن اعتدى عليكم في هذه الأشهر الحرمِ، فلكم أن تقتصُّوا منه، وتجازُوه عن عدوانِه بمثله، وتقاتلُوه كما قاتَلكم، وسميت المجازاةُ عدوانًا مِن بابِ المشاكلة والمجاورةِ، كمَا تقدّم في غير موضع.
والأشهر الحرم أربعة، ثلاثة منها متوالية، وهي أشهر الحج؛ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وجعلت في موسم الحج ليأمن الحجاج فيها على أنفسهم، ذهابا وعودة، فقد كانت لها بين أهل الجاهلية حرمة، يضعون السلاح ويمتنعون فيها من القتال، والشهر الرابع المفرد شهر رجب، اتفقت مضر على تحريمه؛ لأنهم كانوا يعتمرون فيه، ولذا سمى رجب مضر.
(وَاتَّقُوا اللهَ) لا تتجاوزوا ما يحل لكم في الحرماتِ فتعتَدُوا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إن الله مع مَن عَلم منهم التقوَى، بالوقوفِ عندَ أمرِه ونهيه، معهم بالعناية والرعايةِ، والنصر والتأييدِ، وحسن العاقبة.
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) النهي (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) معطوف على قوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) مترتبٌ عليهِ، كترتب النتيجة على المقدمة؛ ليدلَّ على وجوبِ الإنفاق على الجهاد في سبيل الله وإعدادِ العدة، وأن ترك ذلك وبخاصة عندما يكون الجهاد فرضا، كما هو واجب الوقت الذي رخصت فيه دماء المسلمين، وانتهكت فيه حرماتهم وديارهم، ودنست مقدساتهم، وتحزب عليهم عدوهم من الكافرين، واحتلّ بلادَهم بقواته وجنوده، أو بعملائه وأدواته وجواسيسه في بلاد المسلمين، الذين يحققون أهدافه القائمة على قهر المسلمين، فإنّ إمساكَ المال والبخل به عن الجهاد، أو إنفاقه في السرف، بل إنفاقه ولو في نوافل وقربات أخرى، أقلّ شأنًا مِن الجهاد، كالتطوع بالحج والعمرة، أو ببناء المساجد، وإفطار الصائم، والحال مع تعطيل الجهاد بسبب قلة الإنفاق على المجاهدين، فإنه يدخل في الإلقاء باليد إلى التهلكة، الذي حذر الله منه؛ لأن في التخلي عن الجهاد وعن نصرة المجاهدين، وعن إمدادهم بما يحتاجون إليه، ويمكنهم من عدوهم؛ هلاكٌ وإذلالٌ للأمة، وضياعٌ للدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَوْقِفُ سَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ) ، ورفع ظلم عن مظلوم واحد أفضل من بناء مسجد، فإن حرمة المسلم أعظم من حرمة المسجد، بل أعظم من حرمة الكعبة، فقد نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة وقال: (مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ) ، ولو غُصب مالُ مسلم وبُني به مسجدٌ لحرمت الصلاة فيه باتفاق المسلمين.
و(سَبِيلِ اللهِ) يعمُّ كلّ الطريق الموصل إلى مرضاة الله، وعلى رأسِها الجهادُ، فهو ذروة سنام الإسلام، واختصّ سبيلُ الله في عرف الشرعِ عند الإطلاقِ بالجهادِ ولوازمِه، و(تُلْقُوا) تطرحوا وترموا (بِأَيْدِيكُمْ) أي بأنفسكم، مِن إطلاق الجزءِ وإرادة الكلِّ (إِلَى التَّهْلُكَةِ) عُدي تُلقُوا بإلى لتضمنِهِ معنى تُفْضُوا، والتهلكة مصدر، كالهلاكِ والهلكة، هي: تناهي الفساد بما يؤول إلى الفناءِ والزوال، بلا مقابل يحصّل المقصود، ومعناه: النهيُ عن الأسباب المؤدية إلى الهلكة، إذ الهلكة ذاتُها في الطبعِ ما يدفعُ إلى الابتعاد عنها، أي: لا تأخذوا بأسباب الهلكةِ، فتكونوا ممن قتلَ نفسَه بيده، ومِن الهلكةِ الامتناعُ عن الإنفاقِ في سبيل الله، ومن الهلكةِ ملاقاةُ العدوّ بدون عدةٍ وتجهيز، ودونَ أخذٍ بالأسبابِ، التي أمر الله تعالى بها في قوله سبحانه وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)( ) لأنّه من العجزِ والجهل بسننِ الله في الكونِ، التي أقام عليها الدنيا، وبأحكامِهِ الشرعيةِ، التي أمر فيها بإعدادِ العدةِ، قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في سبب نزول الآية: لما أعزّ الله الإسلام وكثر أهلُه، رجعْنا إلى أهالينا وأموالِنا نصلحُها، فنزلت الآيةُ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الإحسان: فعلُ ما ينفعُ الغير ويحبه، فإذا كان ما ينفع الغير غير محبوبٍ، كأن يُعزل من وظيفة وهو لا يستحقها، لا يكون العازل محسنًا للمعزولِ، مع أنّ العزلَ يعود عليه بالنفعِ، بإعفائِه مما لَا يحسنُه، وكذلك إذا كان العملُ محبوبًا غير نافعٍ، كمن يعين صاحبَ المعصية على الوصول إلى شهوته، لا يكون محسنًا إليه؛ لأنّه أضرَّ به، مع أنّه أعطاهُ ما يُحب.
بعد أن أمر الله تعالى في الآية السابقة بالقصاصِ من المعتدي، ومعاملته بالمثل جزاءَ عدوانِه، أعقبَه بالأمر بالإحسانِ؛ لأنّ الغلبةَ مظنةُ السطوة والانتقام، والتجاوزِ بانتهاك الحرماتِ، وسلبِ الأموال، وقتلِ الأسارى، وإتلاف الممتلكاتِ، والتعذيب، والتمثيل بالقتيل، ذاك ونحوه من التجاوزِ في الحق، الذي لا يرضاه المنصفون وأهلُ المروءات، هو الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه لسلمة بن الأكوعِ: (يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ)( ) أي: غَلبتَ فترفّقْ، وهو أيضًا خلاف الإحسان المأمورِ به في الآيةِ، وهو أمرٌ مطلقٌ، حُذف فيه مفعولُ (أَحْسِنُوا) ليتناولَ كلّ نوعٍ مِن أنواع الإحسان، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)( ).
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذا غاية الترغيب في الإحسان؛ لأنّ محبةَ الله لا يعدِلُها شيءٌ.