المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 132- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (132).

(فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)[البقرة:251-253].

(فَهَزَمُوهُمْ) الفاء للفصيحة، أي: فاستجاب الله دعاءهم فهزموهم، وأصل الهزم الكسر، وما تكسر من يابس الحطب، وقيل عن زمزم أنها هزمة جبريل، أي كسرها برجله فخرج منها الماء، والمعنى: كسروا شوكتهم (بإذن الله) بسبب ما أراده الله تعالى مِن نصرهم على عدوهم، والنصر له أسبابٌ ذكرها الله تعالى في آية أخرى، هي الصبرُ ووحدةُ الصفّ وطاعةُ اللهِ ورسوله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)( )، وبوّبَ البخاري: (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ)( )، وداود هو نبي الله، من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وكان في جيش طالوت، بارز جالوت رأس الكفرة من العماليق، كما قال تعالى: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) وزوَّجَهُ طالوت ابنتَه (وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ) ملك بني إسرائيل (وَالْحِكْمَةَ) وأعطاه النبوءة، فجمع له بين النبوءة والملك، بعد أن كان راعيًا (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) علمه ما شاء الله تعالى له تعليمه، ومجيء الفعلِ يشاءُ في قولهِ: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) في المضارع، مِن وضع المستقبل موضع الماضي؛ لما يفيده المضارع من معنى استمرار تعليم الله إياه وتجدده، وأنّه لم يتوقف مدةَ نبوته وملكه، وكان مما علمه الله صنعة الدروع، ومنطق الطير (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) لولا حرف امتناع لوجود، امتنع الفساد لوجود الدفع ، ولذا حسن الاستدراك بعدها بـ(وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: مِن فضلِ اللهِ عليكم، أنّ ما يحققُهُ التدافُعُ مِن رفعِ الفسادِ نعمةٌ تعمُّ العالمين جميعًا، وليست خاصةً بالمؤمنينَ، وفسادُ الأرض فسادُ أهلِها، و(ال) في قوله: (النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) للجنس، أي: ولولا أن الله يجعل من عباده حماةً للحقِّ، يَذودُون عنه، يؤيدهم وينصرهمْ، ويقمع بهم أهل الباطلِ؛ لفسدَ أهلُ الأرض، وأفسَدوا ما عليها، فالبعضُ الدافعُ هم المؤمنونَ والمصلحون، والبعضُ المدفوعُ هم الكافرون والمفسدون. (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ) التي بيَّنت لكم ما تقدمَ مِن الأحكامِ وأخبارِ الأمم (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) نقصها عليك، وهي حقٌّ لا مرية فيه (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) تأكيدٌ مِن الله لقومِ نبيّهِ بأنّه مُرسلٌ مِن ربه، إذْ لا طريق لوصول آياته التي تتلى عليه سوى الوحي. (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) تلك الرسل مبتدأ وخبر، والإشارة فيه إلى الرسل جميعا، المذكورين في قوله: (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، و(ال) في الرسل لاستغراق الجنس، أي جميع الرسل (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) تفضيل بعض الرسل على بعض اصطفاءٌ إِلَاهِيٌّ، يرجع إلى ما أهَّلهم الله له من الاضطلاع بأعباء الرسالة، والمصابرة على القيام بها، وما لاقوه في سبيلها، وذكر الله تعالى موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بذكر بعض فضائلهما تصريحًا، في قوله: (منهم من كلم الله)، وقوله: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات)، وذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم تلميحًا في قوله: (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)، فهو تخصيصٌ في التفضيلِ لنبينا برفعِه درجاتٍ، بعدَ الإخبار العام بتفضيلِ بعض الرسلِ على بعض، حتى لا يكونَ (ورفعَ بعضَهم درجاتٍ) محضَ تكرارٍ، فأفضلُ الرسل بلْ أفضل الخلق على الإطلاق نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنّ الله تبارك وتعالى بعثه للعالمين؛ الإنس والجن: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)( ) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ)( )، وكل رسولٍ غيره أرسل إلى قومه خاصة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)( )، ودلَّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ)( ) (وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّى وَلاَ فَخْرَ)( )، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن تفضيله عن الأنبياء - كما في قوله: (لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)( ) يعني نفسه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى)( ) - ما ورد من ذلك هو مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أو لعله قبل أن يوحى إليه أنه أفضل الخلق، أو إن وجه النهي أنّ الكلامَ في ذلك يفتح باب الجدال والمراء فيهم، ويوهم التنقّص من مقام الأنبياء الآخرين، وتفضيل الله تعالى لبعضهم على بعض، بما يخص به كل واحد منهم من المقامات والفضائل، كما خص نبينا بالمقام المحمود، وعموم الرسالة، وكما خص بعضهم بقوله: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) وكلام الله مما اتفق عليه لموسى صلى الله عليه وسلم، فهو كليم الله بمعنى مكالم، فعيل بمعنى مفاعل، كنديم بمعنى منادم، وجليس بمعنى مجالس، واختلف في وقوعه لنبينا صلى الله عليه وسلم في المعراج، وفي وقوعه لآدم لمّا كان في الجنة، وكما خصّ إبراهيم بالخلةِ، أي المودة (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي أعطينَا عيسى صلى الله عليه وسلم معجزات انفرد بها؛ منها إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وخصّ عيسى بالذكر لغلو اليهود والنصارى؛ النصارَى غالوا في تعظيمه حتى ألّهوه، واليهود غالوا في التقليل من شأنه وتكذيبه (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أيدنا عيسى بروح القدس، وهو جبريل عليه السلام، فهو الذي ينزل بالوحي عليه وعلى جميع الرسل، قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ)( )، والقدس معناه النزاهة والطهر، وروح القدس من إضافة الموصوف للصفة، وخصّ عيسى بالتأييد بروح القدس، مع أن غيره من الأنبياء يشاركونه في هذه الصفة، للرد على اليهود، الذين أنكروا رسالته، وعلى النصارى، الذين غلوا فيه بالألوهية (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) هدايةَ أتباعِ الرسلِ جميعًا لهداهم، و(مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ولو شاء الله ما اقتتلوا من بعد مجيءِ الرسل إليهم، وما اقتتلوا كذلك (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) المعجزاتُ الواضحة النيرة من عند الرسل، لو شاء الله ما اقتتلوا بعد هذا الوضوح (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) ولكن الناس أتباع الرسل اختلفوا في أصول الدين، مع وضوح المعجزات والدلائل (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) وفَّقه الله، وتواضع للانقياد للحق، وحرص على البحث عنه (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) خذله الله، لإعراضه وتكبره على الحقّ وعناده (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) تأكيدٌ على أنّ مشيئة الله هي الغالبة، لكن بعد أن بيّن اللهُ لعباده السبيل الموصلة إليه، ومكّنهم مِن مشيئة اختيارها، كما قال: (إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا).

التبويبات الأساسية