المنتخب من التفسير -الحلقة 251- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (251)

 

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)[النساء:91].

تنَوعَ موقفُ القبائل من المسلمين في مرحلة ما قبلَ فتح مكة، فهناك فريقٌ آخر غير الذين اختلفتم في الحكمِ عليهم بالنفاق وعدمه، ستجدونَ أنفسكم في مواجهتهِم، قومٌ (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) همُّهم أنفسُهم، لا هُمْ منكُم ولا من قومهم، يأتونكم لأجلِ أن يُؤمِّنُوا أنفسَهم منكم، وفي الوقت نفسهِ يريدونَ أن يأمَنوا قومهم، فلا يعادُوهم، وهم بذلك يعرضون أنفسهم إلى الانتكاس (كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا) إذا دعاهم قومهم إلى الكفرِ رجعوا إليه، ووقعُوا فيه على رؤوسهم، فهؤلاء أيضًا إذا لم يُسالموا، ويعطُوكم العهود والمواثيق، ويكفُّوا أيديهم (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ثقفتموهم من الثَّقْف، وهو التمكُّنُ منهم وأخذُهم بقوة، وقتالهم حيثُما وُجدوا (وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) فقد جعل اللهُ لكم عليهم تسلطًا وجرأةً، وجعل لكم على قتالهم أيضًا حجةً وبرهانًا، وذلك لنفاقهم، وولائِهم المزدوج، وخداعِهم، فالسلطان يجوزُ أن يكونَ بمعنى الحجة والبرهان، وأن يكون مصدرًا بمعنى التسلط والقدرةِ عليهم.

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء:92].

الخطأ في القتل: هو ما وقع دون قصد من صاحبه، لا للفعلِ ولا للشخصِ، كما لو سقطَ أحدٌ على غيره فقتلَه، أو وقع بقصدٍ للفعل دون الشخصِ، كما لو قصد طيرًا فأصابَ إنسانًا، أو قصد للشخصِ دون الفعلِ، كمَن قتلَ مَن يظنه حربيًّا، فتبين أنه مسلمٌ، كل هذا يدخلُ في قتل الخطأ، ويقابلُه العمدُ، ومن الفقهاء من يزيدُ قسمًا ثالثًا في القتل، هو شِبه العمد، يريدون به القتل بما لا يقتلُ عادة، كالعصا والسوط.

ومعنى (مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) أنّ مَن اتصفَ بوصفِ الإيمانِ، لا يصدرُ منه قتلٌ بغير حقٍّ فِي حالٍ من الأحوال، إلَّا في حالةٍ هي خارجةٌ عن إرادتِهِ وقصدِهِ، وهي حالة الخطأ؛ لأن وصف الإيمان يتنافى مع وصفِ القصد إلى القتلِ، أما الخطأُ فمعفوٌّ عنه، ولا ينافي الإيمان؛ لأنه ليس معهُ تكليفٌ، وهذا التنافي بين قصد القتل والإيمان، هو من بابِ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في معاصٍ أخرى، هي أقلُّ من القتل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)([1])، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَرْغَبُواْ عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ)([2])، وقوله صلى الله عليه وسلم: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)([3])، قال صلى الله عليه وسلم ذلك تبغيضًا في هذه المعاصي، وتنفيرًا منها، وتغليظًا على أصحابها، فالكلام جارٍ على التهويلِ والمبالغة، بأنه لا توجدُ حالة يَقتل فيها المؤمنُ أخاه، إلا حالة الخطأ، وما وُجد مِن قتلِ العمدِ بين الناس، فلأنّه لما كان لا يصدر ممن كملَ إيمانُه، فكأنه قتلٌ لا وجودَ له، على طريقةِ قصر الادعاء، فالاستثناء في قوله (إِلَّا خَطَأً) متصلٌ مفرغٌ من عموم الأحوال، أي: ما كان للمؤمنِ في حالٍ من الأحوال أن يقتله إلا خطأً، أو إلّا قتلًا خطأً، فخطأً منصوبٌ على الحال، أو المفعولِ، أو صفةٌ لمصدر محذوف، ولا يلزم منه جواز القتل خطأ؛ لأنَّ معناه أن المؤمنَ إذا حصل منه قتلٌ لا يكون إلّا خطأً.

وسبب نزول الآية أنّ عيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أسلمَ وهاجرَ مبكرًا، فَخَرَجَ إليه بالمدينة الحارثُ بن زيد وأَبُو جَهْلٍ، وكان أخاه من الرضاعِ، والحارثُ بن هشام أخو أبي جهل، وأخبروه أن أمّه أقسمتْ ألَّا يُظلّها بيتٌ حتى تراه، وطلبُوا منه أن يرجع حتى تنظرَ إليه أمُّه ويرجع، وأعطوه المواثيقَ ألَّا يحولوا بينه وبين دينِهِ، فخرجوا به، ولما دخلُوا مكة أوثقوه وعذبوهُ، وقالوا: لا نتركُكَ حتى تتركَ دينكَ، وكان الذي يجلدهُ الحارثُ بن زيد، فَقَالَ له عَيَّاشٌ: «وَاللهِ لَا أَلْقَاكَ خَالِيًا إِلَّا قَتَلْتُكَ»، وبقي عياش بمكة حَتَّى خَرَجَ يَومَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَ عندَ قباء الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ الذي كان يعذبُه بِقُبَاءٍ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بإسلامهِ فَقَتَلَهُ، وعندما علم ندمَ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع، فَنَزَلَت الآية([4]).

(وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) هذا النوع الأول: وهو مسلمٌ مقتولٌ خطأً بين قومٍ مسلمين، والواجب فيه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الفاء واقعةٌ في جواب الشرطِ، وتحريرُ خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: فالواجب تحرير رقبة، والتحرير: فكُّ الرقبة من الرّق، وجعل المملوك حُرَّا، أو عتيقًا، والحرُّ والعتيقُ من كلّ شيء: الكريم، ومنه البيت العتيقُ، وحرّ الوجهِ للخد، وحرُّ الطير للذي لا يقدر على صيدهِ، وتحريرُ العبارةِ وتحرير الكتاب: جودةُ عبارتِهِ، والرقبة في قوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) بمعنى الذّات، من إطلاقِ البعضِ وإرادةِ الكلّ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (الْحَجُّ عَرَفَةُ)([5]) (فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ) الدِّيَةُ مخففة مصدر وَدَى كرَمَى، وأصل الدّية: ودْيٌ كرَمْيٍ، حذفتِ الواوُ فاءُ الكلمة، وعوضَ عنها الهاء آخر الكلمة (إِلَى أَهْلِهِ) هم خاصة قرابةِ القتيلِ، الذين يرثونه؛ لأن الدية تُقسم على الورثةِ قسمةَ الميراث؛ لما جاء في حديث الضَّحَّاكِ بْن سُفْيَانَ الْكِلاَبِيّ، قال: (كَتَبَ إِلَىَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِىِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ادْخُلِ الْخِبَاءَ حَتَّى آتِيَكَ، فَلَمَّا نَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ، فَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ قَتْلُ أَشْيَمَ خَطَأً)([6])، وكانت الدية للورثة لأنّ القاتلَ فَوَّت على ورثةِ القتيلِ مَن كان يَعولهم، فعُوِّضُوا عنه بالمالِ، فهي بمنزلة ضمانِ المتلفات، وكانت الديةُ معروفةً بين العرب في الجاهلية إجمالًا، وأقرَّها الإسلامُ بتغييراتٍ مناسبة، بأسنانِها وآجالها، وفي كتابِ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بن حزم: (وفي النفسِ الدِّية)، وجعلتْ في عهدِ الصحابةِ على الحواضرِ بالدينارِ بدَلَ الإبل، وهي على العاقِلة، لمَا جاءَ في البخاري في امرأتينِ مِن هذيل، قتلتْ إحداهُما الأخرَى، قال أبو هريرة رضي الله عنه في الحديث: (وقضى – أي النبي صلى الله عليه وسلم – أنَّ ديةَ المرأة على عاقلتِها)، والعاقلَةُ: القرابةُ من قبيلة القاتلِ وعصبته، أو أهلُ الديوانِ والنقابة، الذين يتضامنونَ معه (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) إلّا أن يعفوَ أهلُ القتيل عن الديةِ ويتنازلُوا، وسُمي عفوهم صدقةً؛ ترغيبًا في العفو، وليعلموا أن لهم في التنازلِ أجرَ الصدقة، قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)([7]).

 (فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) هذا النوع الثاني: وهو قتيلٌ مسلمٌ بين ظهراني قومٍ غير مسلمين، بأن كان أهلُه وقومُه أعداءً لكم (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فالواجب عتقُ رقبةٍ، الذي هو حق الله، فإن القاتلَ اعتدى على حقِّ الله بقطعِ عبادة القتيلِ لربه، فلزمَت لحقِّه الكفارة، مع ما تحمِله الكفارة من معنى الردعِ للمخطئِ على تفريطِه، ولم تجبِ الديةُ هنا، وسقطت؛ لأن القتيل من قوم أعداء للمسلمينَ محاربين، فلا وجهَ لإعطاء أموال المسلمين لهم في الدية؛ لأنها إن كانت تعويضًا وميراثًا لورثته على فقده، فهو مسلمٌ، وورثته غير مسلمين، والكافرُ لا يرثُ المسلم([8])، وإن كانت الدية جبرًا لكسر خاطر أهله، فهم لا يستحقونَ هذا الوصف؛ لأنهم أعداءٌ، والمال يتقوونَ به على المسلمين (وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) هذا هو النوع الثالثُ، قتيلٌ قومُه غير مسلمين لكن لهم مع المسلمينَ ميثاقٌ وعهدٌ، فتجبُ لهم الديةُ مع الكفارة؛ وقد أطلقَ القتيل هنا، ولم يبين ما إذا كان مسلمًا أو غيرَ مسلم، والظاهر أنّ القتيل مسلمٌ كالذي قبلهُ؛ حملًا للمطلق على المقيدِ في قوله (فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهْوَ مُؤْمِنٌ) وإلى هذا ذهبَ مالك([9]) وأهلُ الحجاز؛ وذهبَ آخرونَ إلى أنّ القتيلَ في هذا النوع الثالثِ غيرُ مسلم؛ لأن إِطلَاق مَا قُيِّدَ قَبلُ يَدلُّ عَلى أَنَّه خِلَافهُ، قالوا: ووجبتْ لهم الدية، وإن كانوا غيرَ مسلمين؛ للعهد الذي أُعطيَ لهم، وإلى هذا ذهبَ الشافعي([10]) رحمه الله وجماعة (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فمن لم يجد رقبةً يعتقها، أو وجدها ولا قدرة له عليها، فالواجب بدلًا عنها أن يصومَ شهرين، أيامهما متتابعةٌ، لا يقطع صيامها من غير عذر، فَلَو قُطعت، وتخللها فطرٌ من غير عذر، وَجب استئنافها، ومَن أفطر فيها لعذرٍ، كمرضٍ أو حيضٍ، واصَل صومَها فور انقطاع العذر، واعتدَّ بما صامهُ قبلَ العذرِ (تَوْبَةً مِّنَ اللهِ) مفعولٌ لأجله، أي: تجب الكفارة على القاتلِ لأجل أن يقبلَ الله توبته على تقصيرِهِ، بارتكابِ الخطأ، فما مِن خطأ إلّا ويصحبُه في الغالب تفريطٌ (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) بما يكونُ من عباده مِن تجاوز (حَكِيمًا) فيما يشرعُه لهم مِن أحكام، تنصلحُ بها أحوالُهُم.

[1]) البخاري:2475.

[2]) البخاري:6768.

[3]) مسلم:116.

[4]) جاء في سنن البيهقي: 16568: “أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ شَدِيدًا عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَعَيَّاشٌ لاَ يَشْعُرُ، فَلَقِيَهُ عَيَّاشُ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً)”.

[5]) الترمذي:889.

[6]) الموطأ:1588.

[7]) البخاري:6021.

[8]) أخرج مسلم في صحيحه (1614) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ).

[9]) البيان والتحصيل: 4/161.

[10]) الأم: 6/39.

التبويبات الأساسية