المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 66 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (66).

 

(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[البقرة:110 – 113].

 

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ بعد أنْ أمرهم بالعفوِ والصفحِ، أمرَهم بما يعينُ على العفوِ والصفحِ وتحمّلِ الأذَى، وهو تزكية النفوس بأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فذلك مِن شأنهِ أن يثبتهم على الإيمانِ ويهذبَهم.

﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لا يضرُّكُم أنَّ أعداءَكم لا يقدِّرونَ العفو والصفحَ عنهم، فما تقدمونَه مِن خيرٍ - صغيرًا كانَ أو كبيرًا، مِن هذا العملِ أو مِن غيرِه - تجدونَه محضَرًا عندَ اللهِ يومَ الجزاء، ومهما تغافَلَ الناسُ عنهُ فإنّ اللهَ بصيرٌ بهِ، مطَّلعٌ عليه، فلا يمكنُ أنْ يلحقَهُ في الحسابِ تَطفيفٌ ولا نَقصٌ، وهذا الوعدُ للمؤمنين بالثوابِ، يتضمنُ وعيدًا لغيرِهم بالعقابِ.

(وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ﴾ الجملة معطوفة على جملة (وَدَّ كَثيرٌ) وضمير (قالُوا) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، و(هُودًا أو نَصَارَى) خبرُ كانَ، جاء جمعًا مراعاةً لمعنَى (مَن) في قوله: (مَن كانَ هودًا) وجاء اسمُها ضميرًا مفردًا مراعاةً للَفظ (مَن)، وهودا جمعُ هائدٍ، مِن قولِهم (هُدْنَا) أي رَجَعنا وتُبنا، ونَصَارَى جمعُ ناصرٍ، مِن قولهم (نحنُ أنصارُ اللهِ)، و(أو) في قوله: (أو نصارى) للتقسيم والتوزيع؛ لأنّ في الآية احتباكًا؛ لفًّا ونشرًا إجماليا، حُذف فيه توزيعُ نسبةِ كلِّ قولٍ لقائله، للثقةِ بعلمِ السامع به، والمعنى: قالت اليهود: لن يدخلَ الجنة إلَّا من كانَ هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنةَ إلّا مَن كان نصارَى، وحُذف هذا التفصيلُ لأنّه لا يتبادرُ أنّ اليهودَ تقولُ: لن يدخل الجنةَ إلا من كان نَصارى، والعكس.

﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ تلك إشارة إلى قولتهم (لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ) وأَمانيّ جمع أمنية، أي: الكذب الذي يرغبونه، ويتمنونهه، وجمعت الأماني مع أن المشار إليه بتلك قولةٌ واحدة، وذلك باعتبار تعدُّدِ الأماني مِن أفرادهم، وكذلك تعدد نوعِها، فاليهود مِن أمانيهم أن يدخل الجنة اليهودُ، وألّا يدخلها المسلمون ولا النصارى، والنصارى أمنيتهم مثلُهم، و(البرهان) الحجة القاطعة؛ هاتوا حجتكم وبرهانكم على أمانيكم الكاذبة، وأتي بإنْ في: (إنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ) المفيدةِ للشكِّ في صدقِهم مع أن كذبهم مقطوع به، وذلك لاستدراجهم حتى لا ينفروا، ليعترفوا بكذبِهم حين عجزهم عن البرهانِ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾([1])، والكلام الذي لا حجةَ عليه كالعدمِ.

﴿بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أثبتوا في الآية السابقة دخول الجنة لأنفسهم، ونَفوهُ عن غيرِهم، فجاء الجواب بإبطال كلامهم، فقيل لهم: (بَلى) وهي أداةُ نفيٍ، تقع في جواب النفيِ لتثبته؛ لأنّ نفيَ النفيِ إثباتٌ، فقول اليهود: (لن يدخل الجنة المسلم، ويدخلها اليهودي)، يصير بجواب بلى: (يدخل الجنة المسلم، ولن يدخلها اليهودي)، وهكذا في قول النصارى.

ويحسنُ الوقفُ على (بَلَى)، وجملة (مَن أَسلَمَ وَجهَه) مستأنفة، وعلى وصلِ بَلَى بما بعدَها يقدرُ الكلامُ: بلَى يدخلُها (مَن أسلمَ وجهَه لله) يدخلها كل من انقادَ واستسلمَ وأخلصَ لله، والوجهُ الجارحةُ المعروفةُ، والمراد أخلص بذاته وكليته لله، أو المرادُ بالوجهِ المقصدُ والتوجّهُ، أي: مَن أخلصَ مقصدَه وتوجُّهَه، وخُصّ الوجه بالذكر، لشرفِه بين الأعضاء، واشتمالِه على الحواسّ (وَهوَ مُحسنٌ) جملةٌ حاليةٌ معترضة، تفيدُ أنّ حُسن التوجهِ والإخلاصَ لابدّ معهُ مِن حُسن العملِ (فَلهُ أجْرُه) جوابُ الشرطِ، على أنَّ مَن شرطيةٌ، وخبرٌ على أنّها موصولةٌ، واقترنَ خبرُها بالفاءِ لشبهها بالشرطِ، وجملةُ (فلهُ أجرُهُ عندَ رَبِّه) وما بعدَها تذييلٌ، يؤيدُ صدرَ الآية، فهو في قوةِ: فَلهُ الجنةُ، وبذلك يتأكدُ ما سبقَ، مِن أنّ الجنةَ ليست خاصة بهم كما زعَموا، بل لكلِّ مَن أخلصَ وعملَ الصالحات.

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ قال كل فريق عن الفريق الآخر: ليسوا علَى شيءٍ، أي: ليسوا على شيءٍ نافعٍ يُعتدّ به مِن الحق (وَهُم يَتلونَ الكِتابَ) الضمير (هم) يعودُ على الفريقين (يَتلونَ) يقرؤونَ دونَ تدبرٍ، فلا ينتفعونَ به، ولذا لم يقلْ يَعلَمونَ، والجملةُ حاليةٌ؛ لبيانِ سوءِ حالِهم، ومزيدِ التعجيبِ مِن صنعهم، حيث إن كلًّا منهم يُبطل دِين الآخرِ، مع أن الكتابَ الذي يقرؤونَه يصححُ لكل منهما دِينَ الآخرِ، فالتوراةُ تبشرُ بأنبياء بعدَ موسى عليه السلام، والإنجيلُ مبنيٌّ على ما في التوراة.

وقيل في سبب نزول الآيةِ؛ إنه قدِمَ ستونَ مِن عربِ نصارَى نجران - وهي قبيلة عربية يمانية، كانت تسكن نجران، قرية كبيرة بين اليمن واليمامة - قدمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، في السنة الثانية للهجرة، فأتتهم أحبارُ اليهود فتناظروا وتنازعوا، وقالت اليهود لهم ليستْ النصارَى على شيءٍ مِن الحقّ، ورمَتهم النصارَى بمثلِ قولهم ﴿كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ مثل قولِ اليهودِ والنصارَى في تكذيب الأديانِ قالَ مشركُو العربِ، الذينَ لا يعلَمون، فهُم أمِّيونَ، وليس عندهم كتابٌ، كذّبوا أيضًا الأديانَ اليهوديةَ والنصرانيةَ والإسلام، ولم يؤمِنوا بدين ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ اللهُ يفصِلُ بينَ كلِّ الفِرقِ الثلاثةِ، فيما ذكرُوه مِن التكذيبِ لبعضِهم، وفي غيرِه، ويُجازيهم بِما يستحقّون.

 


[1]) سبأ: 24.

التبويبات الأساسية