المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 86 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (86).

 

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ) [البقرة:161-163].

 

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مستأنف، و(الذين كفروا) يصحُّ حمله على المشركين خاصة؛ لتقدم ذكر أهل الكتاب قبل هذه الآية.

ويصح حمله على العموم، فيتناول كل مَن كفر ومات على الكفر، وتكون اللام في الموصول للجنس، فيدخل فيهم المشركون، ومَن تقدم ذكرهم مِن أهلِ الكتابِ، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى).

فإنّه وإنْ كان الشائع في استعمال القرآن تخصيص المشركين بمشركي العربِ، ومَن في حُكمِهمْ، والكافرينَ بأهل الكتابِ؛ فقد سمّى القرآن أيضًا المشركينَ كفارًا، قال تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) ([1]) المراد نساء كوافر، كُنّ على الشركِ في عصمةِ رجالٍ أسلموا وهاجروا.

وَقوله: (وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) جملة حالية، دلّت على أنّ شرطَ جوازِ اللعنِ - الآتي في قوله: (أولئك عليهم لعنة الله) - الوفاةُ على الكفر، لذا فإنه لا يجوز لعن  أحد معين، ولو كافرًا، إلا مَن عُلم بالوحي أنه يموتُ على الكفرِ، كأبي لهب، ويجوز لعنُ غير المعيَّن، مِن الكفرة والعصاةِ والظلمةِ مُطلقًا، قبل الموت وبعده، قال الله تعالى: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)([2]) (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)([3]) وجاء في السُّنةِ لعْنُ الرّاشي والمرتشي، ولَعنُ المحدِثِ حدثًا، أو  آوى محدثًا وناصره، أو تستَّر عليه؛ كالعائلة والقبيلة التي تصطف خلف فردٍ أو جماعةٍ، مِن أبنائها الظلمةِ المجرمين، الذين يسلبون أموال الناس بالحرابةِ وقطع الطريقِ، أو يقتحمون البيوت، أو يخطفون العلماء  والأبرياء، والمقاومين للطغاةِ والظلمةِ، ممّن نذروا أرواحهم لخدمة وطنهمْ، والذود عن حرماته، فيتتبعونَهم باسم الحربِ على الإرهاب؛ ليتخلصوا مِن كلّ حرٍّ شريف، لا يرضى ببيعِ وطنه.

أو أولئك الذين ينضمّون إلى مَن طغى في البلادِ، فأكثر فيها الفسادَ، يسفكون الدماء، ويحرقونَ الجثث، وينبشون القبورَ، ويحاصرون المدن، وينهبونَ الأموالَ العامّة، ويتآمرون مع أعدائهم على أوطانِهم، في محافلِ السياسة، أو يتحكمون في مصادرِ أرزاق الناس، وما يعيشونَ به مِن وسائلِ الحياة، يحبسونها عليهم، أو يقفِلونَها، كما فُعل بالأمس البعيدِ بمصادرِ الطاقةِ والنفط، وكما يُفعلُ اليوم  بمصادرِ الماءِ، يبغون في الأرض عوجًا، لا يراعون في مسلمٍ إلًّا ولا ذمّة، لا يريدون لبلادهم خيرًا، ولا أن تقومَ لها قائمة، ولاعدل ولا أمنَ ولا استقرار، ولا دين، فكلّ مَن يتحزب لهم من السياسيين أو مرتزقة  المال، المكثرينَ لسواد الظلمة والمفسدين، في وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي، وكلّ مَن  يناصرهم  من قبائلهم أو يتستر عليهم، ولا يتبرؤُ منهم؛ فإنهم جميعًا ملعونونَ، بلعنِ النبي صلى الله عليه وسلم لهم، لا يُقبل منهم يوم القيامةِ صرفٌ ولا عدل؛ (مَن أحدَثَ حدَثًا أو آوى محدِثًا، فعليه لعنة الله والملائكةِ والناسِ أجمعين).

والملعونونَ في الآية قبلَ هذه همْ أهلُ الكتابِ، وجعلَ اللهُ اللعنَ عليهم مِن الملائكةِ والمؤمنين، فقال: (وَيَلْعَنُهُمُ اللّاعِنُونَ)، أمّا الملعونُ في هذه الآيةِ، فهم المشركون، أو هُم عموم الكفرة؛ لذا ناسبَ أن تقع عليهم لعنةُ الناس أجمعين، بما فيهم أهل الكتابِ، ممن كانوا على الحق، فقال: (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، واللعن: الطردُ مِن رحمة الله، وتقدَّمَ معناه.

(خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ).

 (خَالِدِينَ) جملة حالية من الضمير في (عَلَيْهِمْ)، (فِيهَا) في اللعنة، أو في جهنم وإن لم يسبق لها ذكر؛ تهويلا وتفخيمًا لشأنها، حتى كأنها لفظاعة حالها لا تغيب عن الأذهان، ولأنها معروفة من المقام، كما في قوله سبحانه: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)([4])، فالضمير في بلغت يعود إلى الروح وهي في حال النزع، وإن لم تذكر، للعلم بها من المقام (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) عذاب دائم مستمرٌّ ملازِم، كما قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) ([5])، لا يموتون، ولا يخفف عنهم من عذابها (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يقبل منهم صرفٌ ولا عدل، فلا ينتظرون ليعتذروا، كما قال تعالى: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)([6])، أوْ لا ينظر إليهم مِن الله نظرة رحمة، بل يعرض عنهم.

(وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ).

(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) الإله هو المعبود، ولا يطلق إلا على المعبود بحق، فلم يطلق الإله بالإفراد في القرآن على المعبود بغير حقّ، وإنما ذكرت معبودات الكفر بلفظ الجمع، قال سبحانه وتعالى: (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً)([7])، وقد تعددت آلهة المشركين بتعدد معبوداتهم، وكان لقريش ثلاثمائة وستون صنمًا حول الكعبة؛ لذا جاء في هذه الآية الرد عليهم بتقرير الوحدانية، على أبلغ وجه، وذلك بتعدد الإخبار عنها، وتوالي الصفات الدالة على كمال المعبود الحق، واستحقاقه وحده للعبادة دون سواه، مع الحصر بالنفي والإثبات، والكاف في (وَإِلَهُكُمْ) خطاب عام، لكل من يتأتى منه الخطاب، ويدخل فيه المشركون  دخولا أوليًّا، و(إلهكم) مبتدأ، و(إله واحدٌ) خبر، وفي الإخبار عنه بتكرير لفظه منعوتًا بالوحدانية (إِلَهٌ وَاحِدٌ) مِن تقرير وحدةِ الألوهية، ما ليس في [وإلهكم واحد]، لأنه إذا أعيد الاسم أو الفعل ليبنى عليه وصف أو حكم، دلَّ على زيادة العناية به، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)([8])، وجملة (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثانٍ، و(لَا) لنفي الجنس، خبرها محذوف تقديره: موجود بحق، و(إِلَّا) أداة استثناء، و(هُوَ) مستثنى مرفوع على البدل من محل اسم (لَا)؛ لأن القول المختار في الكلام التام غير الموجب البدلية، وليس النصب على الاستثناء، ويتأكد هنا في كلمة التوحيد، فلا يكاد يستعملُ النصب فيها، فلا يُقال: لا إله إلا اللهَ، أو إلا إياه بالنصب، والجملة أفادت كمال التوحيد؛ لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى، أي: هو فرد في ألوهيته، لا يصح أن يعبد غيره، أو أن يُسمي إلهًا، وإنْ لم يعبد، (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) زيادة إخبار عن المبتدأ (إِلَهُكُمْ)، وموقعهما من الجملة كالبرهان على استحقاقه وحده للألوهية والعبادة دون سواه؛ لأنه رحمان مُنعم، وغيره ليس كذلك، وتقدم الكلام على صفتي الرحمن والرحيم عند الكلام على البسملة.

 

 

[1]) الممتحنة: 10.

[2]) هود: 18.

[3]) المائدة: 78.

[4]) القيامة: 26.

[5]) فاطر: 36.

[6]) المرسلات: 36.

[7]) الأحقاف: 28.

[8]) الفرقان: 72. 

التبويبات الأساسية