بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (54).
(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) ويل مصدر، أو اسم مصدرٍ أُميتَ فِعلُه، يقطع عن الإضافة كما هنَا، فيقع مبتدأ وما بعده خبرٌ، ويضاف إلى الضميرِ، كما في قوله تعالى: (وَيلَكَ آمِنْ) فيكون منصوبًا بحرفِ نداءٍ محذوف، أو بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: ألزمَكم اللهُ ويلًا، ويضافُ إلى الظاهرِ فيُرفعُ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في التعجبِ مِن فعلِ أبي بصير: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ)[1]، وقريب مِن (ويل) في المعني (ويح)، يستعملان معا للتعجب والتفجع، إلّا أنّ (ويلَ) تعجبٌ ممّن وقعَ في مهلكةٍ يستحقها، و(وَيح) تفجع وترحم على مَن وقعَ في أمرٍ لا يستحقّه، هذا أصلُ معناهَا، وكثيرًا ما يَنتزعُ العربُ مثلَ هذهِ الألفاظ مِن مدلولِها الأصليّ، ويستعملونَها في المدحِ، مثل: تربَتْ يمينُه، وثكلتْهُ أمُّه، وقاتَلَه الله، ووَيْل أمّه.
ومعناه في الآية: الثبور والهلاك لهؤلاء الذين تقدم وصفهم بتحريفِ كلام الله، بعد ما عقلوه، فهم بتحريفهم يزورونَ كتابَهم؛ يؤلفون فيه مِن رؤوسهم، ويخترعون ما يكتبونه بأيديهم، ويوهِمون أنّه من التوراة التي أنزلَها الله، وما هو من عند الله، وقال (بِأَيْدِيهِمْ) ومعلوم أنّ الكتابة لا تكون إلا باليد، وذلك للتأكيدِ، زيادةً في التوضيح والتقريرِ، وأنّ الكلام على الحقيقة، ولا يحتملُ المجازَ، وهو كقوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم)[2] وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا)[3] (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)[4].
)لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) يفعلون ذلك الكذب والتظاهر بالعلم مِن أجل الترؤس على العامة، والتمكنِ مِن قلوبهم، والأكل بالدِّين، فيزخرفون لهم كلامًا، ويؤلفون أخبارًا تستهوي الجاهلين، فيظنونها من العلمِ؛ ليحصل بها للمترئسين حظوة عندهم، يصلون منها إلى ما يريدونَ من أموالِهم، والاستحواذ على قلوبهم.
فهم يبيعون للعامة هذا التزوير فيما يكتبونه، وينسبونه كذبًا إلى الله تعالى؛ ليأخذوا عليه شيئًا تافهًا مِن حطام الدنيا، وسمَّاهُ قليلا؛ لأنّه مِن متاعِ الدنيا، والله تعالى يقول: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)[5].
(فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ) هلاك لهم وويل مرتين؛ مرةً بتحريفهم الوحي، وقولهم إنّه من التوراة مِن عند الله، ومرةً بكسبهم الحرام، في هذا التأكلِ بالدّين، وفي غيره مِن عموم الكسبِ الحرام، الذي لا يتورعون عنه، فهو من عطف العام على الخاص، وكرر الويل تغليظًا عليهم، لتكون العقوبةُ عقوبتين، عقوبة على الوسيلة المحظورة بالكتابة، وعقوبة على المقصد الذميمِ بأكل الحرام.
وفيه تحذيرٌ شديدٌ من الإحداث في الدينِ بتبديلٍ فيه أو تغييرٍ، عُمل به أو لم يُعمل.
(وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ) المسُّ: ملاقاةُ جسمٍ لجسمٍ، ومسُّ النارِ والعذاب: ويلاته وشِدّته، وقد بالغوا في نفي العذاب عنهم بنفيِهِ بحرف لن، التي تفيد استغراق النفي لجميع الأزمنة، ولم يستثنوا منها سوى (أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) قليلة، يعدها العادُّ، لا يؤبَه بها حسب زعمِهم، وفي ذلك جرأةٌ واستهتارٌ واغترارٌ بحالِهم، وما يدعونَه مما أوردهم المهالك، (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا) العهد: الوعد المؤكد، أي: خبّرونا بحالكم؛ هل كان لكم من الله عهد فيما زعمتم مِن تخفيف العذابِ (فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) الذي وعدكم به، والفاء في (فَلَن يُخْلِفَ) للفصيحة، تأتي في جوابِ شرطٍ مقدر، والتقدير: فإن كان الله عاهدكم فلن يخلفَ وعدَه (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لا بد أن تُقرُّوا بأنه ليس لكم عندَ الله عهدٌ، وأنكم تقولونَ على الله بغير علمٍ ولا بُرهان، وإنما هي أمانيكم وتسويلات أنفسِكم وما تَشتهون، فالاستفهام في (أتخذتم) تقريري؛ ليُظهروا إقرارَهم واعترافَهم بأنهم ليس لهم مِن الله عهد، وأنّهم في قولهم على الله تعالى كاذبونَ.
(بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً) إضرابٌ وإبطالٌ لقولهم لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة، وإخبار مؤكد بأنهم كالناسِ عامة، كما قال تعالى: (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ)[6]، (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)[7]، وليس لهم استثناء يخصُّهم، والسيئة في الآية يُراد بها الكفر؛ لوصفِ صاحبِها بقوله: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) لأن الخطيئة أحاطت به من كل جانب، والخطيئة والخطايا: الإثم الكبير، مِن الكفر فما دونه، وفي القرآن إخبارٌ عن حالِ مَن لا يؤمِن بالله العظيم: (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ)[8] فمن كفر بالله فقد أحاطت به خطيئته من كل جانبٍ، وأطبقَتْ عليهِ مِن كل جهة، فلم تُبقِ له شيئًا مِن عملٍ صالحٍ، ولا أملًا في عفوٍ ولا مغفرةٍ.
وبعد الإخبار عن أهل الضلال بأنهم يسمعون كلامَ الله ثم يحرفونَه عن علم، عنادًا وبهتانًا، وأنّهم أخذوا مِن النفاقِ بشعبِهِ (إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) وأنهم (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) أخبر عن مصيرهم، فقال:
)فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقابَلَهم بالفريق الآخر (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) مقابلةٌ بين خُلودين، خلود حقيقيّ مقصورٌ على أهلِ الكفر في النارِ، وخلودٌ حقيقيّ مقصورٌ على أهلِ الإيمان في الجنةِ؛ ليكونَ المقامُ معَ التقابُلِ أبلغَ في التخويفِ والإنذار، وأوقعَ في البشارةِ والامتثال.