المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 156- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم
 
المنتخب من صحيح التفسير
 
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
 
- الحلقة (156).

 

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)[آل عمران: 16-19].

في هذه الآية جملة (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا) واقعةٌ كالجواب لسؤال مقدر، دلّ عليه ما قبلها، فكأنه قيل: مَن هم المتقون الفائزون بالجنات؟ فقيل: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا...)().
وفي هذا النداء (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا) تعليم للأمة بما يحبه الله تعالى في الدعاء، وذلك من جهتين:
من جهة مناداته سبحانه باسم الربوبية، لما فيه من التلطف والتحبب إلى الله، وما فيه من معنى الرعاية والعناية بالمربوب.
ومن جهة ما في هذا الدعاء من التوسل إلى الله بالإيمان، الذي هو رأس العمل الصالح (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) اغفر لنا المغفرة الكاملة، التي تؤهلنا لرضوانك، ولا نتعرض معها إلى عذابك عذاب النار.
(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)  
قوله: (الصَّابِريَن) من الصبر، وهو: تحمل ما لا يلائم النفس؛ إمّا لأجلِ عاقبتهِ المحمودة، كالصبرِ على التكاليفِ، والقيام بأوامر الله الشاقةِ على النفسِ، أو لعدمِ القدرةِ على دفعِ ما لا يلائم، كالصبر على المصائب والابتلاءات، مع عدم الجزع والتسخط، والصبر بمعنييه مِن أعظمِ الأعمالِ أجورًا، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)()، وهو نصفُ الإيمان، كما وردَ في الحديث()، وقد تقدمَ الكلامُ على الصبرِ في سورة البقرة عند قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)()، و(الصَّادِقِينَ) في تعاملهم  مع  ما يأتيهم من أوامر الله، وفي تعاملهم مع خلقه، والصدق وإن كان معناه: مطابقة الخبر للواقع، فهو هنا بمعنى الإخلاص (وَالقَانِتِينَ) من القنوت، وهو الطاعة لله ورسوله (وَالْمُنْفِقِينَ) الذين ينفقون أموالهم في وجهي الإنفاق؛ التطوعي منه في وجوه البرّ، والواجبُ بأداء ما فرضَه الله في المال (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) الأسحار: جمع سَحر، بالتسكين والفتح، هو الجزء الأخير من الليل قُبيل الفجر، وهو أفضل الأوقات للاستغفار، كما وردَ في الحديث القدسي: (إذا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ)()، وكان هَدي السلفِ الصلاة بالليلِ بالقرآن، فإذا جاءَ السحرُ انقطعوا للاستغفار، كما قال تعالى في وصف أهل الجنة: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)()، وعُطفت هذه الصفاتُ التي هي علامةٌ لأهلِ الجنةِ بعضها على بعضٍ بحرف العطف لتغايُرِها، واختلافِ معانيها()، وذِكرُ الصبرِ وما عُطفَ عليه مِن الطاعاتِ قبلَ طلبِ المغفرةِ بالأسحار، مِن تقديمِ الوسائلِ على المقاصدِ، فالمقصودُ هو مغفرةُ الله، وأكملُها ما يوصلُ إلى رضوانه، والوسيلةُ إليها الصبرُ على البأساءِ والضراءِ، والصدقُ مع الله، وإنفاقُ المالِ، والطاعاتُ في مرضاتهِ.
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) أصلُ معنى الشهادةِ: إخبارٌ بعلمٍ في مجلسِ القضاء؛ ليحكمَ بمقتضاه، وشهادة الله هنا معناها بيانُ وحدانيةِ اللهِ بنصبِ الدلائلِ والبراهينِ، وطلب الإقرارِ بذلك، تشبيهًا لهذا البيان - من حيث العلم به والوثوق بما جاء فيه - بشهادة الشاهدِ العدلِ، الذي يحكم بشهادته (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) الْقِسْط: العدل، مأخوذٌ مِن القسطاسِ، وهو الميزان؛ لأنه يوزنُ به للعدلِ بين الناس، أي: تفردَ سبحانهُ حالة كونه مقيمًا للحكمِ بالعدلِ()، أو بمعنى حالة كونه متفردًا سبحانه بالعدلِ المطلقِ، الذي لا يشاركه فيه غيره، ولذلك فإنّ مِن أسمائِه العدل، بخلافِ مَن عداهُ، فعدلُهُ نسبيٌّ قاصرٌ.  
وفي الآية تشريف عظيم لأولي العلم؛ فقد قرنَ الله شهادتهم بشهادته وشهادةِ ملائكته على التوحيدِ، وعلى أنّه المستحقُّ وحدهُ للعبادةِ دون سواه، وشهادةُ اللهِ - وهي نصبُ الأدلةِ - تقدمَ معناها ، وشهادةُ الملائكةِ بأنه لا إلاهَ ألا هو، معناها إقرارُ الملائكةِ بشهادةِ التوحيدِ، وشهادةُ أولي العلم - وهم مَن نفعَهم اللهُ بعلمهم، ولم يجعلهُ حجةً عليهم - معناها: مع الإقرار بالشهادةِ الاستدلال، وإقامة الحجة على التوحيدِ، والبيانُ والتبليغ.
وقوله: (لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تأكيدٌ لكلمة التوحيدِ مرةً أخرى، وتقديم صفة العزيز على صفة الحكيم، مِن بابِ تقديمِ ما يدلُّ على القوةِ والمنَعةِ مِن صفاتِ الله، على ما يدلُّ على العلم والحكمةِ، تخويفًا للظالمينَ، وتحذيرًا لأهلِ السّوءِ والتشغيبِ والعنادِ.
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهُ الْإِسْلَامُ) الدِّين: الجزاء؛ لأن صاحب كل دِين سواء بحقٍّ أو بباطلٍ إنما يتعلقُ به؛ لأنه يرجُو جزاءَه، ويعرفُ الدِّين في الاصطلاح بأنهُ: وضعٌ إلَهيٌّ سائقٌ لذوي العقولِ باختيارهمُ المحمودِ إلى الخيرِ باطنًا وظاهرًا(). ومعنى الآية أنّ الدينَ المرضيَّ المعتدّ به عند اللهِ هو الإسلامُ، فالعنديّةُ عنديةُ اعتبارٍ، وليسَ (عندَ اللهِ) بمعنى في علمِ اللهِ، بل بمعنى أنّ الدينَ المعتبرَ المعتدَّ به عند اللهِ، الذي لا يُعتدُّ بغيرهِ هو الإسلامُ().
فلا دينَ يقبلُ عند الله غيرهُ، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ()، والإسلامُ صارَ الآنَ عَلمًا بالغلبةِ على الدينِ الذي جاءَ به محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم، وعُرف أتباعُهُ بالمسلمين وبالمؤمنين، وإن كان في الأصلِ - من حيث الحقيقة - أنّ الإسلام هو دينُ الأنبياء جميعًا، كما قال تعالى: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا)().
 
وجملة: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهُ الْإِسْلَامُ) المؤكدة لما دلت عليه الجملة قبلها من الشهادة بالتوحيد، نزلت للرد على نصارى نجران، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للسيد والعاقب، وكانا على رأس وفد نجران: (أَسْلَمَا تَسْلَمَا)، فَقَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (كَذَبْتُمَا، مَنَعَكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثٌ: سُجُودُكُمَا لِلصَّلِيبِ، وَقَوْلُكُمَا: (اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ)()، وَشُرْبُكُمَا الْخَمْرَ)()، فنزلت سورة آل عمران للرد عليهم.

التبويبات الأساسية