المنتخب من التفسير -الحلقة 275 - سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (275)

[سورة المائدة:3].

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ

 وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ)[المائدة:3].

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) هذا نصٌّ في تحريم الميتة وما عطفَ عليها، وهو مما استثني مِن حِلّ بهيمة الأَنْعَام في أولِ السورة، والتحريم في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) حكم شرعيٌّ أسندَ إلى ذاتِ الميتة، فيقدّرُ تعلقُه هنا بأكلِ الميتة أو الانتفاعِ بها؛ لأنَّ التحريمَ لا يسندُ إلى الذواتِ، والميتة: ما ماتَ من الحيوان المأكول اللحمِ حتفَ أنفِهِ بغيرِ ذكاة، أما مَا لا يؤكلُ كالخنزيرِ فهو ميتةٌ، ذُكي أو لم يُذكَّ، والدم المحرمُ هو المسفوحُ، بدليلِ تقييدهِ في الآية الأخرى: (أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ)([1])، والمسفوح: هو الذي يسيل وينصبُّ عند القطع بآلةٍ، فلا يحرمُ من الدم ما ليسَ كذلك، كالذي في العروقِ؛ لأنه غير مسفوح، ثم ذكر لحم الخنزير، فيحرم أكلُ لحمه، وكذلك باقي أجزائه من الشحمِ وغيره، وخصّ اللحم بالذكرِ لأنه المقصودُ الغالب (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ) عطفٌ على الميتة، والميتة إنما حرم أكلُها، لا الانتفاعُ بها في غير الأكل، فيكون التحريم في لحم الخنزير كذلك متجهًا إلى الأكلِ، كما في المعطوف عليه، ويكون تخصيصُ النهي عن الأكلِ في الخنزيرِ يدلُّ للمالكيةِ على أنَّ الخنزير في غيرِ الأكلِ كسائر الحيوان، ينتفعُ بشَعره، ويدخلُ فيه أيضًا الانتفاعُ بجلده إذا دُبغ، على القول بطهارة الجلد بالدبغ؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)([2])، والإهلال في قوله (وَمَا أُهِلَّ) هو رفعُ الصوت، وأصله رفعُ الصوت عند رؤية الهلالِ ليعلمَه الناسُ، وكانوا عند الذكاة يرفعون أصواتَهم باسم الأصنامِ، التي يَذبحون لها، كاللات والعُزى، والإهلال هنا المحرّمُ للذبيحةِ هو مجردُ ذكرِ غيرِ اسمِ اللهِ عليها، ولو بدونِ إهلالٍ ورفعِ صوت (وَالْمُنْخَنِقَةُ) المنخنقة المحرمة: هي التي التفَّ الحبلُ حول عنقها فخنقَها وماتَت (وَالْمَوْقُوذَةُ) من الوقذ بمعنى الضرب، فهي المضروبةُ بخشبةٍ أو حديدةٍ حتى تسكنَ، من قولهم: وقذَهُ النعاسُ، إذا أصابَه فُتُورُه وسُكُونُه (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الساقطةُ من مكانٍ عالٍ فاندقتْ عنقُها وماتَت (وَالنَّطِيحَةُ) مَن نطحتْها شاةٌ أخرى فماتَت، وهي على وزنِ فعيلٍ بمعنى مفعول، الذي يستوِي فيه المؤنثُ والمذكرُ، فتاءُ النطيحةِ ليستْ للتأنيثِ، بل للنقلِ من الحالةِ الأولى وهي السلامةُ، إلى الحالة الثانيةِ وهي الإصابةُ بالنطحِ (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) أي ما أكل السبعُ بعضَه مِن الأنعام؛ لأنه إذا أكلَه كلَّه فلا يبقَى لتعلقِ حكمِ الذكاةِ به محلٌّ، وقد يؤخذُ منه أن الصيدَ الذي أكلَ منه السبعُ المعلَّم، إذا قتلَه بالأكلِ منه لا يُؤكَل، على ما دلَّ عليه حديثُ عدي بن حاتم، وفيه قال: (قُلتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي؟ قالَ: إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ وسَمَّيْتَ فَكُلْ، قُلتُ: فإنْ أكَلَ؟ قالَ: فلا تَأْكُلْ؛ فإنَّه لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ؛ إنَّما أمْسَكَ علَى نَفْسِهِ)([3])، وقوله (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) استثناءٌ متصل عند جمهور العلماء مِن المنخنقةِ، وما عطفَ عليها؛ لأن المستثنى بعد المعطوفات يرجعُ إلى جميعها، عند أكثر أهلِ العلم، وقال الأحناف: يرجع إلى آخرِ المعطوفاتِ، وهو (مَا أَكَلَ السَّبُعُ) دون ما قبله، فلا تفيدُ فيه الذكاة، ومعنى الاستثناء عند الجمهور؛ أنَّ المخنوقة والموقوذةَ والمتردية والنطيحة وما أكل منها السبعُ، إذا أدركتْها الذكاةُ وبها حياةٌ مستقرةٌ أُكلتْ، وهي الرواية عن مالك في الموطأ، والرواية الأخرى للمالكية لابن القاسم؛ أن الذكاة تعملُ فيها ما لم تنفذْ مقاتلُها، فإن نفذتْ مقاتلُها فهي ميتةٌ، ولا تعمل فيها الذكاةُ وإن كانت بها حياة، والأولُ أرجح، والحياةُ المستقرةُ التي تنفع معها الذكاة على القول الأول – الذي لا يعتَدُّ بإنفاذِ المقاتل – علامتُها أن يتحرك الحيوان عقب الذبح، لا أثناءَه، ويري بعضُ أهل العلم أن الاستثناء منقطع، أي أن الذكاة لا تنفع في هذه المذكورات، وهي المنخنقة وما بعدها، وإنما تنفع في غيرها، والنصُبُ في قوله (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) يمكنُ أن يكونَ مفردًا، كما قال تعالى: (كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ)([4])، وجمعُه أنصابٌ، ويمكن أن يكون جمعًا لنِصاب، والنصبُ حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عندها قرابينَهم للآلهة، وليست هي على صورةِ الأصنام، ولكنها كانتْ من شعار الجاهلية في قرابينِهم، فما ذبحَ عليها فهو للآلهة، وقوله (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) معطوف على ما نهي عن أكله من الميتة وما بعدها، والأزلامُ: جمع زلَمٍ، بفتحِ الزاي وضمها، كجَمَل وهُبَل، وهو القِدح بالكسر، يجمع على أقداح، والزلَم والقِدْح سهمٌ ليس له رأسٌ، وهي عندهم في الجاهلية ثلاثةُ أسهم، مكتوبٌ على الأول: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث يترك غُفلًا ليس عليه شيء، والسين والتاء في الاستقسام للطلب، فإنهم كانوا في الجاهلية يطلبونَ بالأزلامِ معرفةَ القَسْم، أي ما قسمَ وقدرَ لهم، والاستقسام بالأزلام من الميسر، كانوا إذا أرادوا سفرًا أو فعلَ أمرٍ أجالوا السهامَ الثلاثةَ في وعاءٍ فَوْهَتُه ضيقة، ثم نكَّسوه، فإذا خرجَ الأمرُ مضوا، وإذا خرجَ النهيُ امتنعُوا، وإذا خرج الغفلُ أعادوا إجالتَها، فلا تعلقَ له بتحريمِ الأكلِ، كما في المعطوف عليه، وعلى هذا فذكرُ الاستقسام بالأزلام مع ما تقدمَ، لمجرد أنّه من المحرَّمات، إذ لا تعلقَ له بما يؤكلُ، ويكون الميسر بهذا المعنى من أعمالِ الكفر، لكن لعلَّ عطفَ الاستقسامِ بالأزلامِ على محرمات الأكل، يرشِّح أن يكونَ المراد به ما كانوا يفعلونهُ من المقامرة على مَن يتحملُ ثمنَ الجزور، الذي اعتادُوا في الجاهليةِ أن ينحروه للشراب، يشتركُ في منادمةِ الشراب عليه العشرةُ، يشترونَه بالدَّين، ويأتون بأقداح الميسرِ عشرة على عددهم، سبعة من الأقداحِ مكتوبٌ عليها اسمُ أصحابِها، وثلاثةٌ منها غفلٌ، ليس عليها كتابة، فمَن خرجت لهم الأقداحُ الثلاثةُ الغفل هم مَن يدفع ثمنَ الجزور، والميسرُ على هذا من المقامرةِ بأكل المال بالباطل، وقد تقدمَ الكلام على الميسر في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)([5]) (ذَلِكُمْ فِسْقٌ) الإشارة بذلكم إلى الاستقسام بالأزلام، وسماه الله فسقًا، والفسق لفظٌ مشتركٌ بين المعصية الغليظةِ والكفرِ، فالذي هو مجردُ قمارٍ على مَن يتحمل ثمن جزور الشرابِ فسقٌ، وليس كفرًا؛ لأنه مِن أكلِ المال بالباطل، وما كان مِن الميسرِ باعتقادِ نسبة الضر والنفعِ إلى غير الله، والائتمارِ بأمر الآلهةِ الذي يخرج به سهمُ الميسر، فهو كفرٌ.

 

[1]) الأنعام: 145.

[2]) الترمذي: 1728.

[3]) البخاري:5158، ومسلم:1929.

[4]) المعارج:43.

[5]) البقرة: 219.

التبويبات الأساسية