المنتخب من التفسير -الحلقة 277 - سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (277)

[سورة المائدة:4].

 

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ 

وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

بعد أن ذُكرت المحرمات، سألَ الناسُ عن الحلال، فقالوا: ماذَا أحلَّ لهم؟ أي: ما الذي أُحل لهم من المطاعم؛ لأن سياق الكلام من أول السورة عن المطعومات، وقوله (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) هو حكاية لسؤالهم، وإلّا فإنّ مَن يسألون يقولون: ماذا أحل لنا؟ لا: ماذا أحل لهم؟ ومعنى السؤال: هل كل ما عدَا المذكور – في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وما بعدَها – هو حلالٌ، أم فيه تفصيل؟ فأجابهم الله تعالى بما يلهمهم إلى قاعدة عامة، تغنيهم عن كثيرٍ من السؤال عن الجزئيات، فقال (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) فالطيبُ وصفٌ لما أحله الله، وتعليقُ الحكم بالمشتق يؤذنُ بعليّةِ ما منه الاشتقاق، فيكون الطيبُ كله حلالًا، وضده وهو الخبيث كلّه حرامًا، وقد صرحَ القرآنُ بهذا في قوله (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) لكن وصف الشيء بأنه طيبٌ أو خبيثٌ يختلف اجتهادُ الناس فيه، فإذا قلنا: الطيبُ ما استطابته الطباعُ السليمة واستحسنتْهُ، ورأته ملائمًا، والخبيثُ ما استقذرتْهُ، فقد يستحسنُ شيءٌ عند قوم، ولا يستحسنُ عند آخرين، فبعضُ الأمم تأكلُ الحشراتِ والثعابينَ والديدان، بل بعضُها يأكلُ الفأر، وهو عند غيرهم خبيثٌ مستقذَر، وحتى لو اتفقوا على استحسان شيءٍ، فقد لا يكونُ مأمونَ العاقبة، ويكون ضارًّا، والشريعة لا تأتي بالمضارّ، ولذلك عندما سُئل مالك رحمه الله عن الطيّب قال: “الطَّيِّبَاتُ الْحَلَالُ”([1])، فأحالهم على أمر منضبطٍ مأمونٍ، لا ينخرمُ، إذ لا شك أن ما أحلَّه الله كله طيبٌ، فالصحيحُ أن الطيبَ ما كان حلالًا، وحتى على هذا التفسيرِ للطيب بأنه الحلالُ، فهو لايزال عامًّا، لأن كل ما سكتَ عنه الشرع ولم يحرمهُ، فهو حلالٌ مأذونٌ فيه بالشرع، ويمكن أن يقالَ: إن من علامات الطيب الحلالِ استلذاذه، واستحسان العقول السليمة له، مع سلامةِ العاقبة، فقد يكونُ الشيءُ مستلذًّا وخيمَ العاقبةِ، كالسمِّ في العسل، فإنه لا يكونُ حلالًا، ولما كان المحرم قليلَ النوعِ، ذكره اللهُ في الآياتِ السابقةِ بالعددِ، فقال (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلى آخره؛ لأنه محصورٌ محدودٌ، أما الحلالُ فلأنه واسع كثير غير محصور، وهو الأصل في الأشياء؛ قال الله عنه في معرض الامتنان: (هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا)([2])، ولذلك كان الجواب عن الحلال في قوله (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) هو ضبطه بالوصفِ، الذي يأتي على جميعِ أنواعه، دون ذكرِ أعداده، وقوله (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) عطف على الطيبات، أي: أحلَّ لكم الطيبات، وأحل لكم صيد الذي علَّمتموهُ من الجوارحِ، كالكلابِ ونحوها، وذكر الصيد هنا ضمن ما أحله الله؛ لاشتباههِ بالمحرمِ في قوله (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ)  فـ(مَا) في (مَا عَلَّمْتُمْ) موصولة، وفاء (فَكُلُوا) للتفريع([3])، والجوارح: السباع من ذوات الأربع، والطيور المعلمة، وهي في اللغة بمعنى الكواسِبِ، جمع كاسب، وهو مَن يسعَى ويكسبُ الرزقَ لغيره، ومنه قولهم: فلانٌ جارحةُ أهلِه، أي كاسبهم، يسعَى عليهم في تحصيلِ رزقهم، ومكلِّبين جمعُ مكلِّب، وهو معلمُ الكلابِ، ويسمى كَلَّابًا نسبةً إلى الكَلب، أي: فالصيدُ الذي أمسكه لكم الكلبُ المعلَّم حلالٌ، وكلٌّ من (مُكَلِّبِينَ) و(تُعَلِّمُونَهُنَّ) منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في (عَلَّمْتُمْ) وفي تكرير الحالِ ما يشيرُ إلى أنّ مَن طلبَ علمًا ينبغِي أن يأخذَه عن معلمٍ متقِن؛ لأنه المعتدّ بتعليمِه، أي: وما علمتمْ من السباعِ الجوارح حالَ كونكم معلمين إياها (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ويكون الكلبُ معلَّمًا، بحيث إذا أُشلي – أي أُغرِي – ينشلِي ويشتدُّ وراءَ الفريسة، والإغراءُ يكون بإرسال الجارح من يدِ صاحبِه إذا كان مشدودًا بيده، وإذا لم يكن مشدودًا يكون بانطلاقِهِ إذا أمرَه، وبانكفافِهِ إذا دعاه، وإذا لحق بالصيدِ فحبسه أو أصابَه أمسكَه على صاحبِه، ولا يأكلُه، ويُرضَى في الطير بما دونَ ذلك من التعليمِ، ونُسب التعليمُ إلى الكلابِ دون غيرها من السباعِ؛ لأن أكثر ما يقعُ من التعليم يكون للكلابِ دون سواها، كالفهدِ والبازي والصقور، أو لأنَّ الكلبَ يطلق على كل سَبُع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه على عُتبة بن أبي لهب، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم سلِّط عليه كلبًا مِن كلابِك)([4])، فأكلَه الأسدُ (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) تفريعٌ على الإذنِ بالأكل من الصيد، المعطوف على الطيبات([5])، وقوله (أَمْسَكْنَ) يشعر بأن الكلب المعلَّم لا يأكلُ من الصيد، واختلف العلماء إذا أكل منه، فقيل: لا يؤكلُ، قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)([6])، ولأن أكله منه يدلُّ على أنه غير معلم، وقال مالك رحمه الله: “يؤكلُ وإنْ أكلَ منه”، ويذكى إن وجدَ حيًّا، لحديث أبي ثعلبة الخشني، وفيه: (وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ)([7])، وإن وجده الصائدُ مقتولًا بفعل الجارحِ فقتلُ الجارحِ ذكاة له، وهذه فائدة التعليم، وقوله (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) يدل على طلبِ ذكرِ اسمِ اللهِ على الجارح، بأن يقول الصائد: “بسمِ اللهِ” عند إرسالِ الجارح، وعلى المصيد عند ذكاتِه، إن وجدَ حَيّا([8]) (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) مَن كانَ سريعَ الحساب يُخشَى عقابُه؛ لأنه يحاسبُ على الصغيرِ والكبير، فلا يفوتُه شيءٌ عند الحساب.

[1]) التحرير والتنوير: 6/11.

[2]) البقرة:29.

[3]) وعلى أن (مَا) في (ما علمتم) شرطية تكون (وَمَا عَلَّمْتُمْ) معطوفة على جملة (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات) من عطف الجمل، وجوابها (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).

[4]) السنن الكبرى للبيهقي: 10052.

[5]) النون في (أمسكن) ضمير جمع المؤنث، يعود إلى الجوارح المعلمة؛ لأن جمع التكسير لما لا يعقل يعامل معاملة جمع المؤنث.

[6]) البخاري: 173.

[7]) أبوداود: 2852.

[8]) ففي ضمير (عَليه) في قوله (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) استخدام، بعوده إلى أمرين، هما: الإرسال، وعند الذبح إن وجد حيًّا، كلٌّ منهما مقصود أن يعود عليه.

التبويبات الأساسية