المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 161- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم 
المنتخب من صحيح التفسير 
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني. 
- الحلقة (161). 

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[آل عمران:30-34].
 

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)() إحضار العمل معناه: إحضار صُحفهِ التي كتبت فيها الأعمال، أو إحضار جزاء الأعمال، والكلام فيه حذف بالاكتفاء، حذف من الثاني لدلالة الأول عليه، والتقدير: يوم تجدُ كلّ نفسٍ ما عملتْ من خيرٍ محضرًا، وما عملت مِن سوءٍ محضرًا، وما عملت من سوءٍ تودّ لو أن بينَها وبينه أمدًا بعيدًا، أي تود النفس وتتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم، يوم الجزاءِ الذي وجدت فيه عمل السوء محضرًا، تودُّ لو أنّ هذا اليوم لم يأتِ، وأن يكونَ بينها وبينه أزمانٌ طويلة، فلا تلتقي به؛ لما وجدت من الشر الذي تخافهُ، فعودُ الضميرِ إلى اليوم أبلغ مِن رجوعه إلى (مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ)؛ لأن رجوعه إلى اليوم يفيد شدةً زائدةً عليهم، حتى إنهم كرهوا أن يرَوا ذلك اليوم، مع ما فيهِ مِن بعضِ الخير؛ لئلّا يروا ما فيه من السوء(). 
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (الْ) في العباد للاستغراق؛ فهو سبحانه رؤوف بكل العباد: المسلم والكافر، المطيع والعاصي، ومِن رأفتهِ بهم أنّه يؤخرُهم ويمهلُهم ليتُوبوا؛ (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ)()، وأعاد سبحانه التحذير من نفسه مرة أخرى، وهو على معنى ما مضى آنفًا، كرره تأكيدًا على ألّا يفعلوا ما نُهوا عنه من الموالاة، وعلى ألّا يعملوا سوءًا فيجدوه محضرًا، وألا يغتروا ويتهاونوا بما يرونَه مِن إمهالِ الله لهم، ومِن رأفتهِ بعبادهِ مسلمهم وكافرِهم، وأنه يحذّرهُم حتّى لا يغفلوا، فيصيبهم العذاب، والرأفة والرحمة مِن صفاته على ما يليقُ به سبحانه.
(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) الحبّ: الميل والتعلق بما فيه إدراكُ لذة، ووقوعه من العبدِ لله وأنبيائهِ صحيح، قال الغزالي: فلا ينكر حبَّ الله إلّا مَن قيَّده القصورُ في مربطِ البهائم، وحبُّ الله يستلزمُ طاعتهُ في السرّ والجهرِ، فقد رتبت الآية الطاعةَ على الحب ترتّبَ الجزاءِ على الشرطِ، فعلامة الحب الطاعةُ، والانقيادُ لأمرِ الله تعالى وأمرِ رسوله، هذه هي علامته لمن أرادَ أن يعرفَ من نفسه صدقَ محبتهِ مِن كذبها، ومدّعِي الحب مع العصيان حبّه كاذبٌ؛ لأنّ المحبّ للحبيبِ مطيعٌ.
(وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) هذه آثارُ محبةِ اللهِ العبدَ: الرضا عنه والمغفرة، والعفو والعافية، والتوفيق والقرب والمسامحة، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ...)() (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) تأكيدٌ على الأمرِ بالطاعةِ، ووعيدٌ لمَن تولّى وأعرضَ استكبارًا وعنادًا، فالتولّي معناه الكفر، لما ترتبَ عليه من قوله: (فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) فإنّه يفيد دخولَ مَن تولى في عدادِ الكافرين، ولم يقلْ: فإنّ الله لا يحبهم؛ ليعم مَن تولى ويعمّ غيرهم مِن الكفرة.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا) اختار لرسالته آدمَ أبا البشر الأول، ونوحًا أبا البشرِ الثاني؛ لأنّ اللهَ أهلكَ بالطوفان مَن على الأرضِ، ولم يبق إلّا مَن مع نوحٍ في السفينةِ، مِن أولاده ومَن آمنَ معه (وَآلَ إبراهيم) الآل: القرابة، وتقدم الكلام عليه، وَآلُ إبراهيم هم إسماعيل وإسحاق والأحفاد والأسباط، وموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام من آل إبراهيم (وَآلَ عِمْرَانَ) هما عمرانان: عمران أبو موسى وهارون، وعمران أبو مريم، اختارهم الله واصطفاهم بفضائل كثيرة، على رأسها الرسالة والنبوة، ولعل (آلَ عِمْرَانَ) الذين سُميت بهم السورة هم مريم وعيسى عليهما السلام؛ لأنّ السورة فصلت في قصة مريم وخلق عيسى عليهما السلام، ما لم تفصّل في موضع آخر، فذكر آل عمران بعد آل إبراهيم دون ذكرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ليس لتفضيلِهم على محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن آل إبراهيم، فهو مذكورٌ، وإنّما ذكر آل عمران لأنّهم المقصودون بالسورةِ (عَلَى الْعَالَمِينَ) العالمين: شاملٌ لجميع المخلوقات، وتفضيل مَن ذكرَ يقتضي تفضيلَ جميعِ الرسل، وقد تقدم معنى العالَمين في الفاتحة.
(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الذرية: النسل والعقب، مِن الذّر بالفتح والضمّ، بمعنى البثّ والانتشار، ويطلق على الواحد والجمعِ()، أي: ذريةً بعضُها متصلٌ ومنحدِرٌ ومتشعِّبٌ مِن بعض، وهذا يستوجب تصديقَ أتباع الرسلِ بعضِهم للبعضِ الآخر، لا التكذيبَ والعناد، كما يفعل اليهود والنصارَى في تكذيبِ بعضِهم بعضًا، وفي تكذيبهم لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه سميع عليم بأقوال عبادهِ وأعمالهم، يصطفِي منهم مَن يصطفي؛ عن علمٍ كاملٍ بصدقِهم وإخلاصِهم.

التبويبات الأساسية