المنتخب من التفسير -الحلقة 230- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

– الحلقة (230)

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النساء:33-34].

(وَلِكُلٍّ) التنوين في (كلّ) عوضٌ عن المضاف إليه المحذوف، والتقدير: ولكلّ تاركٍ مالًا بعد موته (مَوَالِيَ) المَوالي جمع مَولى، والمَولى يطلقُ على السيد وعلى العبد، واشتقاقه من الولْي، وهو القُرب، وهو المراد هنا، أي: لكلّ تاركٍ مالًا جعلنا قرابةً يرثونه (مِمَّا تَرَكَ) (مِنْ) بيانيةٌ، و(مَا) موصولة؛ كناية عن المال، أي يرثون مِن بعض المال الذي تركه، وقوله (الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) بيانٌ للمَوالي مَن هم؟ أي مَن تكون هذه القرابة؟ والمعنى: جعلنا لكل هالكٍ قرابةً يرثونَ ماله، وهم الوالدان والأقربون الذين بينتهم آياتُ المواريث.

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) عَقَدَتْ وَعَاقَدَتْ: من العَقد، هو عقد الحِلف، فيدلُّ على التوارث بالحلف، و(أَيْمَانُكُمْ) جمع يمين، يطلق على اليد اليمنى، ومنه قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)([1])؛ لأن المتعاقد يضع يده في يد صاحبِه، ويَصفِقُ يدَه على يدِه عند التعاقد، ومنه قيل للعقدِ: صَفقةٌ.

وتطلق اليمين على القَسَم والحَلِف؛ لأنهم كانوا عند عقد الأحلاف والعهود، يحلفونَ على الوفاءِ بما تعاقدُوا عليه، ومنه سمي تعاقدهم حِلفًا، وكانوا في الجاهلية إذا تعاقدوا على الحلف يتوارثونَ به، ويقولُ أحدُهم للآخر: دمِي دمُك، وهَدمِي هَدمُك، أي: إذا أخذتَ بدمي آخذُ بدمك، وإذا عفوتَ وتركتَ أتركُ، وسِلمي سلمُك، وحربي حربُك، وثأرِي ثأرُكَ، وترثُني وأرثُكَ، وكانوا يعطونَ الحليفَ السدسَ من الميراث، وكذلك كان المهاجرون والأنصار يتوارثونَ بالمؤاخاةِ، التي آخى بها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أولَ الهجرة.

وجملة: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) يصح أن تكون مستأنفةً مبتدأ، والخبر (فَآتُوهُمْ) وقرن بالفاء لشبه الموصول المبتدأ بالشرط، ويكون ضمير (فَآتُوهُمْ) عائدًا على (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) وهذا يؤيده اختيار الوقف عند أكثر القرّاء على قوله: (وَالْأَقْرَبُونَ) وما بعده استئناف، والمعنى على الاستئناف: والذين تعاقدتم معهم عقدَ الحلفِ، على نحو ما سبق، فآتوهُم نصيبَهم وحظوظَهم، فإنْ كان المرادُ من النصيبِ المأمورِ بإتيانه إياهم حظوظَهم من الميراث، كما كانوا يفعلونَ في الجاهلية، وفي أولِ الإسلامِ من التوارثِ بالهجرةِ، فهي منسوخةٌ بقول الله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ)([2])، وبآياتِ المواريث، وإن كان المرادُ: فآتوهُم نصيبَهم من النصحِ والنصرةِ والرفادةِ بالإحسان إليهم، فلا نسخَ، وإليه ذهبَ بعضُ أهلِ العلم.

وبعد أن انتهى التوارث بالحلفِ والهجرةِ، صارَ التوارثُ بالرحمِ، فدخلَ في الرحم كلّ مَن له رحمٌ مع الميت، سواء كان مِن العصبة، أو مِن جهة الأم، كبنتِ الأخ، وبنتِ الأخت، والعمةِ، والخالِ، والخالةِ، ثم جعلَ الميراث للعصوبةِ بآيةِ المواريث، وبقيَ ذَوُو الأرحام مرجعًا يردُّ عليه المالُ الزائدُ، عندما لا يكونُ هناك صاحبُ فرضٍ يستوفي جميعَ التركة، ولا عاصبَ يردُّ عليه ما بقيَ بعد الفروضِ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)([3]).

ويصحُّ أن تكون (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) معطوفة على (الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، فتكون جملة (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) مؤكدة لجملة (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) لأنها مترتبةٌ عليها، مسببةٌ عنها، وتكون فاء (فَآتُوهُمْ) فاءَ الفصيحةِ، ويكون المعنى: جعلنا لكل هالك وارثًا من الوالدين والأقربين، ومن الذين دخلتم معهم في حلفٍ للتناصر، إذا عرفتُم ذلك فآتوا كلَّ من ذُكر نصيبَهم، ويكونُ ضمير (فَآتُوهُمْ) عائدًا على (مَوَالِيَ) وما عطف عليه.

وختمتِ الآيةُ بالوعيد على المخالفةِ بمنعِ أحدٍ نصيبَه، بقوله (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) تهديدٌ لمن خالفَ الأحكامَ والفرائض، وحرمَ منها أصحابَ النصيبِ، وترغيبٌ لمن راقبَ اللهَ ووَفَّى، حتى قيل: إنّ في قوله: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) أبلَغُ وعدٍ ووعيدٍ؛ لأنه لا معنى بعد ذكر الأحكام من الإخبار بأن الله شاهد ومطلع على عملِ عباده، إلَّا الوعيد لمن ضيعها.

(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أل في (الرِّجَالُ) للجنس، جنس الرجال، وهم هنا خصوصُ الأزواج، بدليل قوله: (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (قَوَّامُونَ) جمع قوَّام، ومعناه يرجع إلى معنى الرعاية، والحفظ، والعناية، ويقال منه: قَوّام، وقَيَّام، وقَيُّوم، وأتى فيها بصيغة المبالغة، الدالة على قوة المعنى في الرعاية والحفظ وتمكّنه (عَلَى النِّسَآءِ) الزوجات، وقوامة الرجال على النساء: هي في الدفع عنهن ما يسوؤهنّ، وفي الحفظ، والاهتمام، والرعاية، كقيام ولاةِ الأمر على الرعية، يقومونَ عليهم برعاية مصالحهم، والدفاع عنهم، والعدل والإحسان إليهم، والجملةُ خبرٌ لفظًا معناه الإنشاء، والأمر بتولي القوامة، وذَكر الله لهذه القوامة سببين:

الأول: جِبليٌّ خلقيٌّ، باختيارٍ من اللهِ وتفضيل، ليس فيه للرجل مِن عمل، ولا هو من كسبِه، وهو قوله: (بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فقد فضلهُ بالقوة التي تؤهله للجهادِ وللأعمالِ الشاقة، كالذَّودِ عن الحياضِ، وقيادةِ الجيوش، والرباطِ، والإمامةِ الكبرى، وإقامةِ الشعائر، كالجمعةِ والجماعات، إلى غير ذلك، وتَحَدَّدَ وعُرفَ هذا البعضُ الذي فضله الله منهما على بعضٍ بقوله: (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) فتكون القرينة على أن البعضَ المفضلَ هم الرجال، أنهم الذينَ يتولون الإنفاقَ على البيت، وهذا هو السبب الثاني في التفضيل، فالرجلُ عليهِ لزوجتهِ: النفقةُ، والكسوة، والمسكنُ، والمهرُ، قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)([4])، وقال: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ)([5])، وقال أيضًا: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)([6]).

والباء في قوله: (بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ) للسببيةِ، و(مَا) تصلحُ أن تكونَ موصولةً ومصدريةً، فالمصدريةُ تدلّ على أن القوامة سببُها تفضيلٌ مِن اللهِ لهم، وإنفاقٌ مِن أموالهم، والموصولةُ تدلّ على أنّ القوامةَ بسببِ ما علمَهُ الناسُ مِن تفضيلِ الله لهمْ، وبما علمُوهُ مِن إنفاقِ أموالِهِمْ.

[1]) الإنشقاق:7.

[2]) الأحزاب:6.

[3]) البخاري:6351.

[4]) البقرة:233.

[5]) الطلاق:6.

[6]) النساء:4.

التبويبات الأساسية