المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 142- تابع سورة البقرة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (142).

(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[البقرة:272-273].

 

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)[1] الضمير في (هُداهُم) يعود على من كان زائغًا؛ إمّا بالكلية من المشركين والمنافقين، أو مَن كانت به بقية زيغ مِن ضِعاف الإيمان، وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحزنه إعراضُهم وكفرُهم ونفاقُهم، ويحزنه مَن هو دون ذلك، مَن ينفقُ رياء، ومَن ينفق ويمنّ، ومن يقصد الخبيث فينفقُ منه دون غيره، ويتألم صلى الله عليه وسلم ألَّا ينقادوا وألّا يهتدوا، أو لَا تكمل هدايتُهم، ويكاد صلى الله عليه وسلم في ذلك يهلك، كما قال تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)([2]) (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)([3])، فهوَّن اللهُ تعالى عليه الأمر، وبيَّن له أنه لا تجبُ عليه هدايتهم، وتحولهم إلى الإيمان، ولا الاستقامة عليه، فإيجاد الهداية والاستقامة في القلوب هو مِن أمر الله وحدَه، مَن أراد هدايته هداه، وليس الأمر فيه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد؛ (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)([4])، وما على الرسول إلا البلاغ والبيان، وهداية الدلالة والإرشاد، كما قال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)([5]).

 (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ما تتفقوا مِن  طيب حلال، مهما كان قدره، كثيرًا أو قليلًا[6]، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقُوا النّارَ ولَو بِشقِّ تَمْرةٍ)[7]، فنفعه في الآخرة مختص بكم، فاحرصوا على الإكثار منه، وأن يكون سالمًا مِن الآفاتِ كالمنّ والأذى (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ)[8] لا يعتَدُّ بشيءٍ مِن الإنفاقِ الذي تنفقونَه وتؤجرونَ عليه، إلّا ما كان ابتغاءَ وجهِ الله، سالمًا مِن الرياءِ (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) تكرر الحضّ على الإنفاق مرارًا في آياتٍ متتالية، وتكررَ مَا رتبتهُ عليه الآيات من الجزاء العظيم، والتضعيف للأجر الكثير؛ للترغيب في الإنفاق، والإشعار بأهميته، والتأكيد على طلبه في كلّ الأوقاتِ، وكل الأحوال؛ من ليل ونهار، في السر والإعلان؛ تنبيهًا للبخيل، وإيقاظا للغافل، وتحريكًا لضعيفِ الهمة، حتى لا يحرم منه مغبون بوجهٍ من الوجوه.

 (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بعد الأمر المتكررِ بالإنفاق، بما يدلّ على بلوغ الغاية في أهميته، كأنَّ سائلًا يقول: لمن هذا الإنفاق الموعود عليه بالأجر على هذا النحو عساهُ أن يكونَ؟ فقيل له ولأمثاله: اقصدوا بالإنفاق الفقراءَ المتصفينَ بالصفاتِ الآتية: (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) رصدوا أنفسهم وفرغوها للجهاد، وللدعوة إلى الله، وتبليغ رسالاته، وحبسوها على ما ينفع الناس من المعروف ووجوه الخير (لَا يَسْتَطِيعُونَ) بسبب انشغالهم وحبسهم أنفسَهم للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، لا يستطيعون (ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ) ذهابًا في الأرض وسعيًا في مناكبها، ليكسبوا رزقهم، ويتحصلوا على ضرورات حياتهم بالتجارة ونحوها، بسبب انشغالهم بالجهاد والقيام بأمر الله.

ومِن صفاتهم أنهم بلغوا الغاية في التعففِ، والبعدِ عن الطمع عمّا في أيدي الناس، وعن الإكثار من الدنيا والتوسع فيها (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ) بحالهم، ومَن لا يعرف حقيقة أمرهم، يظنهم (أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) يظنهم في بحبوحة ورغد من العيش، أبعَدَ ما يكونون عن الفقر، لرضاهم واطمئنان نفوسهم، وهذه الحال التي هم عليها من القناعة والرضا، ليس لأنهم في واقع الأمر أغنياء، ولكن من أجل التعفف والحياء، والمروءة وعلوّ النفس (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) الخطاب لكل مَن يراهم، غير معين من الناس[9]، يعرفهم كلّ مَن يراهم بسيماهم، بالعلامة الظاهرة عليهم، التي لا تلتبس، والمعنى: إذا أردت أن تعرف واقع ما هم عليه حقيقةً، فتنبئك عنه سيماهم، والعلامة الظاهرة عليهم من الحاجة والفاقة والضعف، والرثاثة في الهيئة والملبس والمظهر، وهم مع ذلك الواقع المرير (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)[10] أي: لا يسألون الناس سؤالَ إلحافٍ، ولو اضطروا للسؤال اضطرارًا، والملحفُ: الملِحُّ، وهو الذي يلازم المسؤول، ولا يتركه حتى يعطيه، والنفي في قوله: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) يصلح أنْ يكون متجهًا إلى الأمرين؛ السؤال والإلحاف، بمعنى أنه لا يوجدُ منهم سؤالٌ أصلًا، لا بإلحاحٍ ولا بغيره، كما في قوله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)([11]) أي: ليس لهم شفيعٌ أصلًا، لا شفيع يطاع ولا شفيع لا يطاع، وكما في قول امرئ القيس:

عَلى لاحِبٍ لا يَهتَدي بِمَنارِهِ

إِذا سافَهُ العَودُ النُباطِيُّ جَرجَرا

 

اللاحبُ: الطريق، أي: طريق واضح لا يحتاج منارةً ولا اهتداء بها، ويصلح أن يتجه النفي إلى  الإلحاف والإلحاح وحده، مع وجود أصل السؤال، على معنى: إن اضطروا إلى السؤال يسألون ولا يلحفون فيه، والوجه الأول أبلغ في الاتصاف بالعفة التي وُصفوا بها (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) التنكير في (خير) كالأول للتقليل، وتأكد بدخول مِن البيانية عليه في سياق النفي، أي: فمهما بلغ الإنفاق في الخير مِن القلة (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) وعدٌ بالجزاء العظيم على الإنفاق، لمن علِم اللهُ منه الإخلاص فيه.

 

 

[1]) أصل (على) للاستعلاء، وهي تدل على الوجوب، كما في قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، أي: لا يجب عليك هداهم.

[2]) فاطر: 8.

[3]) الشعراء: 3.

[4]) القصص: 56.

[5]) الشورى: 52.

[6]) فـ(خير) نكرة، وهي في سياق النفي، تعم كل خير، و(مِنْ) صلة لتأكيد العموم، واللام في (فَلِأَنْفُسِكُمْ) للاختصاص؛ خير ما تنفقونه خاصّ بكم.

7) صحيح مسلم: 2734.

[8]) الجملة حالية، وهي خبرية لفظًا طلبية معنًى، أي: عليكم أنْ يكون إنفاقكم ابتغاءَ وجه الله.

[9]) السِّيمى مِن سام، مقلوب وسم، وهي العلامة.

[10]) إلحافًا حالٌ، بتأويل ملحفين، أو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع.

[11]) غافر: 18.

التبويبات الأساسية