المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 167- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (167).

(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران:53-57].

 

(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) هذا مِن كلام الحواريينَ تأكيدًا لكلامِهم السابق، في قولهم نحنُ أنصارُ الله، وما بعدَه، مع زيادةِ تفصيلٍ في إخبارهم عن أنفسهم بإيمانِهم بما أنزلهُ اللهُ مِن الكتب، التوراةِ وغيرِها، واتباعِهم لرسولِهم الذي أرسلَه إليهم، وهو عيسى عليه السلام (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) لك بالوحدانية، ومع الشاهدينَ الذين يشهدونَ مع الأنبياءِ على أتباعِهم، ويشهدونَ يوم القيامة على رُسلِهم بالصدقِ والتبليغ، وأداءِ الأمانة، وذلك يتضمنُ الدعاءَ بالخاتمةِ الحسنة، التي هي رأسُ الأمر كله، إذ لا تتحقق هذه الشهادات مع الأنبياء في القيامة إلا لمن حسنت عاقبتهم .

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) دبَّر اليهودُ - الذينَ أحسَّ عيسَى عليه السلام منهم الكفرَ - المكرَ به، والكيدَ له، وتآمروا على قتلِهِ، فنجاهُ الله منهم، وكانَ جزاؤُهم من جنسِ المكرِ الذي دبَّروهُ، فأبطَلَ اللهُ عملهم مِن حيثُ ظنُّوا أنهم نجَحُوا؛ لأنّهم لمّا أرادُوا أن يقتُلوا عيسَى ويصلبُوهُ، شبَّهَ الله لهم به رجلًا آخر، فأخذوهُ وصلبُوه، وظنُّوا أنهم نالُوا ما أرادُوا بقتله، فنجاهُ الله منهم بلطفِهِ، ولبّس عليهم، فأخذوا غيره ولم ينتبهوا؛ (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ)([1])، ما قتلوهُ كما قال تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)([2])، وسينزلُ عيسى في آخرِ الزمان، حكَمًا عدْلًا، يقتلُ الخنزيرَ ويكسرُ الصليبَ، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحينِ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ)([3])، فكان عاقبةُ مكرِهم أنهم خُذِلوا، وباؤُوا مِن فعلِهم بالإثمِ والخزيِ، من حيثُ ظنّوا أنهم حققُوا ما أرادُوا (وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أشدُّ مكرًا، وأقدرُ على إيصالِ الضرِّ لمن أراد ضرَّه، والمكرُ: إيصال الضرِّ إلى الغير بوجهٍ فيه خفاء، والله لا يحتاجُ في إيصال الضر لمن استحقَّه إلى شيءٍ من هذا، فإطلاقُه على الله إنّما هو من بابِ المشاكلةِ والمقابلةِ بمكرِهم، وإذا وردَ المكرُ منسوبًا إلى الله تعالى ابتداءً، كما في قوله تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ)([4])، فهو بمعنى إيصال الضر مطلقًا.

 (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)([5]) اذكر يا محمد قولَ اللهِ لعيسى: إني متوفيك، وكلام الله لعيسى هو بواسطة الملَك، فليس عيسى عليه السلام بكليم (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) الوفاةُ: الموت، والأقرب أن وفاةَ عيسى وفاةُ موتٍ لا نوم، وهو قول ابن عباس، وقول مالك، وتُحمل الآية إمّا على التقديمِ والتأخير، أي: إني رافعُك إلي ومتوفّيك، يعني في آخر الزمان، وإمّا أنَّ اللهَ تعالى توفّاه وقتًا قصيرًا رفعَه فيه إلى السّماء، ثم أحياهُ، ومما جاءتْ به الأحاديث الصحيحةُ واتفقَ عليه سلفُ الأمة؛ أن عيسَى عليه السلام في السماء حيٌّ، وأنه ينزلُ في آخر الزمان، ويكسرُ الصليبَ ويقتلُ الدجالَ، ويفيضُ العدل ويظهرُ هذه الملة، ملةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويحجُّ البيتَ ويعتمرُ، ويبقى في الأرضِ أربعًا وعشرينَ سنةً، وقيل أربعين سنة، ثم يميتُه الله تعالى([6]) (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) إلى السماء، والإضافة في (إليَّ) إضافةُ تشريف (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مطهرك ومبرِّئك من رجسِ اليهود وخبثِهم، وسوءِ حالهم وأفعالهم برفعِكَ إليَّ؛ فلا يضرُّك مكرُهم (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) اتبعوا عيسَى من المسلمين والحواريين، وكلّ من آمن بنبوته، قبل مجيءِ نبينا صلى الله عليه وسلم، جاعلهم (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وعَدَ اللهُ تعالى الذين آمنوا بعيسى بالغلبةِ والظهورِ والتمكينِ في الدنيا، إلى يومِ القيامة، كما وعدَ المؤمنين مِن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)([7]) (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي: مرجعُكم ومصيرُكم إلى الله يومَ تُبعثون، والخطابُ في قوله (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) لعيسَى ومَن معه من قومه، مَن آمنَ به ومَن كَفر (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يوم القيامة، يحكمُ بينكم بالعدل فيما كُنْتُم تختلفون فيه في الدنيا، في أمورِ العقيدة، وفي غيرِها، وهذا يتضمن وعدًا للمؤمنين منهم بالجنةِ، ووعيدًا للكافرين بالعذابِ، فصّلته الآية التي بعدها.

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بكَ وبرسالتك من اليهود والنصارى (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) عذاب الدنيا بما يصيبُهم مِن البلاءِ والشدائد والهزائم والأمراض، وكان ما يصيبهم فيها عذابًا لأنهم لا يؤجَرون عليه، ولا ينتفعون به، بخلاف المؤمنين (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) لا أحدَ يقدر على نصرتهم فيمنعهم مِن عذاب الله (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) فيعطون أجرهم في الآخرة وافيًا، وإذا وعدَ الكريم بالوفاء فأمِّل منه فوق ما يُرضيك، وتوفيةُ أجر المؤمنِ في الدنيا بالتوفيق والبركة والرضا والعافية، وإذا أخذَ الله منه شيئًا من هذا، عوضه عنه من أجرِ الآخرة ما يرضيه (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعذب الله الكافرين، ويوفي أجور المؤمنين؛ لأنه لا يحب الظالمين، فقد حرَّم الله الظلمَ على نفسه، وحرمه على عباده، وهؤلاء ظلموا أنفسَهم بكفرهم، وظلمُوا عيسى عليه السلام بتكذيبه، وبقولهم ابنُ الله، وظلمُوا اللهَ بنسبة الولدِ إليه، فجمعوا أنواع الظلم كلّها، والآيات السابقة وإن كان الأظهرُ أنها خطابٌ لعيسى عليه السلام وقومه، فيدخل في عمومها الوعد للمؤمنين من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بتوفية أجورهم في الدنيا والآخرة، والتعريض بالمشركين.

 

[1]) النساء: 157.

[2]) النساء: 158.

[3]) البخاري:2222، ومسلم:306.

[4]) الأعراف: 99.

[5]) إِذْ في (إذ قال الله) ظرف لما مضى من الزمان، متعلقٌ بفعل محذوف، تقديره: اذكر.

[6]) مسند الإمام أحمد: 9270.

[7]) النور: 55.

التبويبات الأساسية