المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 186- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (186)

 

(لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[آل عمران:113-116].

(لَيْسُوا سَوَاءً) عودٌ إلى التنويه بالفئة القليلة المؤمنة مِن أهل الكتاب، المتقدمة في قوله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ)، فالضمير في (لَيْسُوا) راجع إلى أهل الكتاب، و(سَوَاءً) من التسوية والمماثلة، فهم ليسوا متماثلين ولا متساويين، ولم يكونوا كلهم على ما اتصف به اليهود مِن الضلال والسوء، والتحريف والكفر، وقتل الأنبياء (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) من اليهود والنصارى، وأظهر اسمهم (من أهل الكتاب) دون الاكتفاء بضميرهم، فلم يقل: منهم؛ للتنويه باسمِ مَن كان منهم على الاستقامة، وليشمل الطائفتين: اليهود والنصارى؛ لأن المتبادر من السياق – لو استعمل الضمير – هم اليهود وحدهم، وكان في  النصارى أيضًا صالحون (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) طائفة وفريق على الإيمان والاستقامة والديانة والعدل، والقيام بالحق (يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) آنَاء اللَّيْلِ: ساعاته وأوقاته، وهو جمع مفرده (أَنَى) كعصا، يعني: مِن صفاتهم وعلامة استقامتهم وقيامهم بالحقِّ صَلاتهم بالليل، وتعميرهم أوقاته بالسجود وتلاوة القرآن، فعبر عن صلاة الليل بالتلاوة والسجود؛ لأنه أبْيَن أركانِها، وأبلغُ في المدح؛ لأنه تصويرٌ لهم بأحسنِ هيئة.

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) حققوا الإيمانَ، وقاموا بأمر الله صدقًا واحتسابًا، واستصلاحًا لأحوال الناس؛ لأن المؤمن كما يعنيه أمر نفسه يعنيه أمر غيره، لأنّ صلاحه لا يتم إلا بصلاحِ الأمة (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يرغبون إلى الخيرات، ويستكثرونَ منها (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) الإشارة للقليل القائمين بالحقّ، فهم في عِدَادِ الصالحينَ، وسببُ صلاحهم ما تقدمَ مِن صفاتهم، وهذه الصفات هي مِن قوله: (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهي صفاتُ القلة القليلة من أهل الكتابِ، المذكورين في قوله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ولا يتعارض هذا مع قوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، ولا مع قوله: (وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)؛ لأن هذه الصفات المبغضة هي الغالبة عليهم، التي عليها أكثرهم، والصفات الأخرى الخيّرة استثناء، التي عليها القليل منهم.

(وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ) (مَا) شرطية، و(خَيْرٍ) نكرة في سياق الشرط، ووقوع النكرة في سياق الشرطِ كوقوعها في سياقِ النفي، يفيدُ العموم، فيعمّ كلّ خير فعلوه، صغيرًا كان أو كبيرًا، وتأكد العموم بدخول (مِنْ) على النكرةِ، وقوله: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) لن يجحدوه، وسيجدونَ جزاءهُ أمامَهم، كامِلًا غير منقوص، وجملة (فلن  يكفروه) جواب الشرط، والضمير في  يُكفروه يعود على خير ، أي: لن يضيع جزاء هذا الخير، ولن ينقص منه شيء، مهما كان هذا الخير قليلا([1])، وقد تفضلَ اللهُ على عباده بما لا يفعله غيرُه، فجعل فعلَ عبده الخير منّةً ونعمةً منه يقدمُها إلى الله، وتعهد له ربّه بثوابها، وسماهُ شكرًا، ونفى عن نفسهِ كفرانها، وهذا كما سمَّى – وهو المنزه عن الحاجة – الصدقة قرضًا، يقترضها من عبده، ووعده بردها أضعافًا في قوله تعالى: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)([2])، فسبحان اللهِ الذي مِن أسمائهِ الحسنى الشكور الكريم الودود، فما أعظمَ شكره وودّه وإحسانَه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) فمن علم منه التقوى وعلم صِدقها منه وفاهُ جزاءَه، ولم يضيعهُ، ووضع الظاهر (بِالْمُتَّقِينَ) موضع الضمير (بِهِمْ) للتنبيه على الوصف الذي أهَّلَهم لكرم الله، وللإيذان بأنه لا يفوز عنده إلا أهلُ التقوى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلم يؤمنوا، أشرَكُوا بالله وألحدُوا في أسمائه، واتصفُوا بضدِّ صفاتِ القائمين على الحق، فلم يتعبدُوا بالليل، ولم يأمُروا بالمعروف، أو أمَروا به مداهنةً لا احتسابًا، وسارعوا في الإثم، ولم يسارعوا في الخيرات (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا) لن تمنع، ولن تدفع عنهم الأموال ولا الأولاد شيئًا من العذاب، ولو قليلا، فـ(شَيْئًا) مفعولٌ مطلَقٌ، وتنكيرهُ للتقليلِ، ودخلَ النفيُ على المعطوفِ (وَلَا أَوْلَادُهُمْ) دون الاكتفاءِ بذكره مع المعطوفِ عليه (أَمْوَالُهُمْ)؛ لتأكيدِ عدم نفعِ الأولادِ أيضًا، لِمَا يتوهّم مِن أنهم أقوى في النفعِ والدفع مِن الأموال، بل كذلكَ غير الأموالِ والأولاد، فليسَ هناك جهة تغني شيئًا مِن الغناء، ولا قوةٌ تردّ شيئًا من عذابِ الله؛ فإن القوة لله جميعًا، قالَ تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)([3]) (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) مصيرُ الذينَ كَفروا الخلودُ في النار، وهوَ أسلوبٌ يفيدُ القصْرَ بتعريفِ جزئي الجملةِ؛ أولئك وهم، فهم مقصورون على النار، ليس لهم سِواها.

 

[1]) (يُكْفَرُوهُ) مِن (كَفَرَ) عدي إلى مفعولين: الأول الواو نائب الفاعل، والثاني الهاء لتضمنه معنى يُحرموه، وأصله أن يتعدى إلى واحد، إمّا بنفسه أو بحرف الجر وهو الأكثر، كنقيضه (شَكَرَ)، تقول: شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت له.

[2]) البقرة: 245.

[3]) البقرة: 165.

التبويبات الأساسية