المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 155- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (155).

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:14-15].

لما ذكر اللهُ تعالى قتالَ العدو في الجهاد، وقد تقع منه للنفس حظوظ تشتهيها وتميل إليها، ناسبَ أن يعقبه التزهيدُ في هذا المتاعِ القليل للنفس، وأنه لا يقارَنُ بما عند الله، إذا قاتلوا في سبيلهِ خالصًا؛ حثًّا لهم على الإخلاص. 
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ) من التزيين، وهو: جعل الشيء حسنًا جميلًا، والاسم منه الزّينُ، وهو الجمالُ والحُسنُ، وبُنِي الفعل (زُيِّنَ) للمفعول؛ لأنّ تزيينَ الشهوات فاعلُه يختلفُ باختلافِ المرادِ منه، فحبّ الشهوات - بمعنى إيجاده وخلقه في القلب - لا يقدرُ عليه إلّا اللُه وحده، فهو الذي له الخلقُ والأمرُ، والفاعلُ على الحقيقة لكلّ شيء، وأمّا الحضُّ على تعاطِي الشهواتِ والأمر به، فمنه ما هو شيطانيّ، وهو تزيينُ شهواتِ الحرام؛ كشهوةِ البطنِ والفرجِ المحرمة، وشهوةِ الانتقامِ والغضبِ، وما إلى ذلك، فهذه يزينُها الشيطانُ، ويدعُو إليها، كما قالَ تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)( )، ومنه ما هو مباحٌ، وهو تزيين شهوات الحلال؛ كالزوجاتِ والأولاد، وما اكتسبهُ الإنسان من الأموالِ بطريقٍ مشروع، فهذا التزيينُ فيه ليس شيطانيًّا، وإنما هو فطريٌّ جِبليّ، فطر الله تعالى النفوسَ عليه، فداعيهِ ومزيّنه هو الطبعُ السليم، المركوزُ في الإنسان جبلةً وفطرةً (حُبُّ الشَّهَوَاتِ) جمع شهوة، والفعل منها شَهِي كرَضيَ، وهي الغريزة التي تتحركُ في النفسِ لتشبعَ رغبةً فيما تحبه، والمراد من الشهوات ما يحركُ هذه الغريزةَ من المشتهياتِ، التي تحبها النفسُ لجمالها وإغرائِها، لكن جعلت المشتهياتُ لشدةِ الميلِ إليها والتعلقِ بها كأنّها هي الشهوةُ نفسُها، على وجه المبالغةِ، حتى كأنهم يشتهونَ اشتهاءَها، على حدِّ قولهم للمريضِ: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أنْ أشتهي، وأسندَ التزيينُ إلى حبِّ الشهوات لا إلى الشهواتِ نفسِها؛ لأن تزيينَ حبها أبلغُ من تزيينها، فتزيينُ حبّها يتمكن من النفس، يصير ملازمًا في كل حين، لا انفكاكَ عنه، بخلاف تزييِن الشهوة، فإنه مرتبطٌ بوجود ما تشتهيه النفسُ (مِنَ النِّسَاءِ) مِنْ بيانية، بينتْ أصول الشهواتِ، التي لم يختلف الناسُ على مر الدهور والعصور على اشتهائِها، وجعل النفوس تنجذبُ إليها طبعًا، لا تلحقُها في الإقبال عليها سآمةٌ، وبالإقبال عليها يستمرُّ بقاء النوع الإنسانيّ لعمارةِ الأرضِ، إلى أنْ يأذنَ الله تعالى بفنائهِ (الْقَنَاطِيرِ) جمع قنطار، وزنٌ مِن المال، تعارفوا في وقتٍ من الأوقات على أنه يبلغُ مائة رطل مِن الفضة، وهو ما يساوي اثني عشر ألفَ دينار مِن الذهبِ وزنًا، ويقال لمن بلغ ذلك من الثروة قنطَرَ  (الْمُقَنْطَرِةِ) هذا من وصف الشيءِ بما يشتقُّ منه؛ للمبالغة في تكثيره وتضعيفهِ، وهو كثير في وزنِ الفاعلِ، كما في قوله تعالى: (وَنُدْخِلهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)( )، وقولهم: شعرُ شاعرٍ، وداهية دهياء، ويأتي في المفعول كقولهم: ألوفٌ مؤلفة، وإبلٌ مؤبلة، وقناطير مقنطرة (الْمُسَوَّمَةِ) اشتقاقها إمّا من سام، والاسم منه السُّومة والسِّمة - وهي أكثر استعمالا - بمعنى العلامة، أي: التي بها علامات تميزها تنويهًا بها، أو من أسام الماشية: إذا رعاها، والاسم السّوْم بمعنى الرعي، فالمسومة هي الراعية في المراعي، ومنه الحديث: (في الغنمِ السائمةِ الزكاةُ)( )، والتضعيف فيها للمبالغة والتكثير (وَالْأَنْعَام) من الماشية: الإبل والبقر والغنم (الضأن والمعز)، بخلاف النّعم فمختصة بالإبل، والأنعام من الزينة، كما قال الله في الآية الأخرى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)( ) (وَالْحَرْثِ) هو شق الأرض ليزرع فيها ويغرس، والمعنى: المحروث من الجنات والحيطان والزروع والكروم، وقد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ)( ).
(ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الإشارة إلى ما تقدم من الشهوات التي تحبها النفس، والخطاب لكل مخاطب غير معين، والمتاع ما يكون محدودَ المدة مما يستمتع به، وإضافته إلى الحياة الدنيا لبيان قصره، مقارنةً بما عند الله، المذكور في قوله: (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) والمآب: المرجع والعاقبة، فهو حُسنٌ خالدٌ أبديٌّ لا ينقطعُ.
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ) (قُل) خطابٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والهمزة حرف استفهام للعرض، بمعنى: ألَا أخبركم عن شيءٍ هو خير من ذلكم المتاع، وهو متاع الدنيا؟ (ِلِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) الوصول إلى الجنات التي هذه صفتها، وفيها الخلود والنعيم الدائم، سببه التقوى( ).
(وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرًةٌ) طهارة حسية من الحيض والعَرق والقاذورات (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) من نعيم الجنات، والرضوان: معناه رضا عظيم؛ لأن زيادة المبنى في حروف الكلمة تدلّ على زيادة المعنى، فتخلص أن المتاع ثلاث درجات: أدنى: متاع الدنيا، ووسط: متاع الجنة من النساء والقصورِ وطيب الحياة، وأعلى: وهو رضوان الله على أهلها، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أهم متع الحياة وكمالاتها في أعين الناس، التي يعدونها غايتهم، وهي: المال والنساء والبنين والأملاك والجنات - المزارع والحقول - والخيل الغرّ المعلمة، والأنعام من الماشية التي يربونها، وبعد أن ختم الكلام عنها وبأنها متاع محدود، سرعان ما ينقطع، عرض المتاع الممتدّ السعادة، الذي لا ينغصه شيء، فقال: ألا أنبئكم وأخبركم بخير مما تقدم لتغتنموه؟ فكأنهم قالوا: ما هو؟ فقال لهم: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري مِن تحتها الأنهارُ، لكنها جنات مِن نوع آخر، ليست كجناتِ الدنيا؛ منغصة بالرحيل، ومهددة بالفناء، بل جناتُ خلودٍ، وفيها مع الجنات والبساتين النساء، وهن أيضًا لسنَ كأزواج الدنيا، اللاتي يعرضُ لهن الاستقذار والريح الكريه، والحيض والعرق ونحوه، مما يحتاج معه للتعهد المستمر، وفيها شيءٌ آخر ليس له نظير في متاع الدنيا أصلًا، وهو أعلاها، وأكبر من كل نعيم سواه، هو رضوان الله تعالى على أهلها، وتجليه بعظمته لهم، ولم يذكر من نعيم الجنة الذهبَ والفضةَ والبنين والحرثَ؛ للاستغناء عنها في الجنة، وعدمِ الحاجة إليها، ولا الأنعام؛ لأنّ الله تعالى يقولُ لها: كُونِي ترابًا، فلا تدخلُ الجنة (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) عليمٌ بمَن اتقى، واستحقَّ ذلك النعيمَ.

التبويبات الأساسية