المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 137- تابع سورة البقرة

 بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (137).

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:260-262].

 

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) ربِّ أرني بالبصر، رؤية عين ومشاهدة، الحالة والكيفية التي  تحيي بها الموتى[1] (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)[2] أي: أتسأل عن كيفية إحياء الموتى والحال أنك لم تؤمن (قَالَ بَلَى وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[3] آمنت، وبلى يجاب بها عن السؤال في النفي، فتفيد الإثبات، وقد سألَ إبراهيم ربَّه أن يريه بالمشاهدة كيف يحيي الموتى، ليعلم بالعيان ما علمه بالبرهان، كما قال بعد ذلك: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: بلى آمنتُ، ويقيني بقدرة الله على ذلك ثابتٌ لا يتزعزع، وسؤالي عن  رؤية كيفية إحياء الموتى ليس مبعثه الشكّ، وإنّما لأنْ أعلم بالمشاهدة والعيان ما علمته بالحجة والبرهان، والطمأنينةُ: السكون والسكينة، وهي هنا سكون النفس، عندما يحصل لها بالمشاهدة العلم الضروري، فتتخلّص من معالجة إقامةِ الحجةِ والبرهانِ النظريّ على ما تؤمن به.

(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) الطير جمع طائر، كصحب وصاحب، و(صُرْهُنَّ) قطعهنَّ، أو اضممهنَّ إليك في متاعكَ[4] (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا) أي: اجعل على كل جبل من الجبال جزءًا من الطير الذي قطعته، ثم ادعهُ؛ ليعود إليك طائرًا كما كان.

وتوضيحُ ذلكَ: أنّ الله تعالى أمرَهُ ليحققَ له ما أرادَ، أن يأخذَ أربعةَ أنواعٍ مِن الطير ويقطعها، ويخلطَ بعضَها ببعض، ثم يضع كلّ جزءٍ مِن أجزاء هذه القطع المختلطة على رأسِ جبلٍ مِن جبال أربعة متقابلة، ثم ينادي على هذه الطير أنْ تقبل عليه، فتأتيه تسعى، بعد أن يبحث كل طير عن أجزائه المتفرقة، فينضم بعضُها إلى بعض، ويأتي ساعيًا إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد تعرف عليها مِن قبل، فيجدها كما عرفها، هي نفسها أُحيِيت، بعد تناثرها وتفريق أجزائها، وليس الذي أتاهُ غيرها (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) غالبٌ لا يعجزه شيءٌ، ذو حكمة بالغة.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) بعد الأمر بالإنفاق المتقدم في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) كأنه قيل: ماذا لهم لو أجابوا وأنفقوا؟ فكان الجواب بضرب مثال محسوس، يدركه العالم والجاهل، فقيل لهم: مثل من ينفق (في سبيل الله)، أي: في أوجه المعروف كلها، وعلى رأسها الجهاد؛ مثله كمثل من يضع حبة يزرعها في أرض مُغِلّة صالحة نقية مَروية، فتنبت ساقها بإذن ربها، ويتشعب منها سبعة أفرعٍ، في كل فرع سنبلةٌ بها مائة حبة، فإنّ ساق الحبة الذي أصله حبة واحدةٌ، يعطي الله به سبعمائة حبّة، فكذلك الحسنة الواحدة، يعطي الله تعالى عليها  سبعمائة حسنة، وليس ذلك فقط، بل إن الله سبحانه وتعالى يضاعف لمن يشاء أضعافًا كثيرة، ويزيد على ذلك من غير حدّ ولا حسابٍ، فإنه واسع الغِنى والعطاء، لا يضيق عن خزائنه إنفاقٌ مهما بلغَ، عليم بإخلاصِ من ينفقُ وصدقِه، وعليم بمن يعطي إيثارًا على نفسه، ومحبةً للخير، ورغبة في الامتثال، ووثوقًا بوعد الله بالخلف عليه في الدنيا، وبثوابه وعظيم جزائه في الآخرة، فاستحضارُ هذا ونحوه مما يرققُ القلب، ويقربُ إلى الله وقتَ الإنفاق، يعظمُ ويتضاعفُ به الأجر أضعافًا كثيرة، ويأتي به الخلفُ عن الإنفاق سريعًا، ولا ينقصُ المال، بل يباركُ فيه ويزداد.

 (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى) المنّ: التذكير بالنعمة، وتعدادها على من أعطيت له، مثل: أطعمتك كسوتك أنفقت عليك... الخ، والمنُّ سببه أن المعطي كارهٌ لإعطاء المال، شديد على نفسه، قال الغزالي رحمه الله: "وهو من الجهل؛ لأن مَن بذل المال لطلب رضا الله والثواب، فقد علم أن ما حصل له من بذل المال أشرفُ مما بذله"، وقد نهى الله عن المنّ، فقال تعالى: (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ)([5])، وعطف عدم المن على الإنفاق بـ(ثُمَّ) للبعد في الرتبة والفضل بين الإنفاق وعدم المنِّ، لا للبعد الزمني بين وقوع الإنفاق والمنّ؛ ليدل بذلك على أن عدم المن أعظم شأنًا من الإنفاق ذاته، وأنهما متفاوتان منزلةً[6]، والإنفاق العالي الرتبة، الذي لا يصحبه منٌّ، أنْ يكون لنصرة الدين، ومرضاة الله وحده، وليس للنفس فيه حظوظ، والأذى: الإساءة إلى المنفق عليه بسبب الإنفاق، كإهانته وتعييره لفقره، أو احتقاره والتكبر عليه، وإشعاره بأنه صاحب حاجة.

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[7] هؤلاء الذين أنفقوا هذا الإنفاق الخالص، الخالي من المنِّ، لهم أجرٌ عند الله عظيم، وثوابٌ منه جزيل، أعظِمْ وأجزِل به مِن جزاءٍ؛ لأنهم يلقونه (عندَ ربّهم) في ضيافته وكرامته، وعندما يذكر أن الجزاء والضيافة من عند الله - وأنّ مَن كان مِن أهلِها لا خوف عليه مِن مستقبَل، ولا حزن يلحقُه عمّا مضى - عندما يكون الأمر كذلك، فلينتظر مَن أكرمَه الله بهذا الجزاء والأمان من الخوفِ المفاجآتِ السارةَ، والمقاماتِ العالية، التي لا تخطر بالبالِ.      

 

[1]) الياء مفعول أول لـ(أَرِنِي)، وجملة (كيف تحيي الموتى) في تأويل مصدر مفعول ثاني، وكَيْفَ منصوب على الحال، لبيان الحال والكيفية التي يكون عليها إحياء الموتى، وليست للاستفهام.

[2]) الاستفهام في (أولم) تقريري، والواو للحال.

[3]) بلى حرف جواب، يجاب بها عن السؤال المسبوق بالنفي، فتفيد بلى الإثبات، فتكون بمعنى نعم، وإذا كان السؤال مثبتا فالجواب بها   معناه النفي، فإذا قلت: بلى، جوابا لمن قال: أجاء محمد؟ فمعناه أنه لم يجئ.

[4]) صرهنَّ قرئ بضم الصاد وكسرها، فقراءة الضم من صاره يصوره، وقراءة الكسر مِن صاره يصيره، ومعناه قطّعها، وعليه تكون (إِلَيْكَ) متعلقة بخذ، أي: خذ إليك أربعة من الطير فقطعها، أو بمعنى أمِلها وضمّها، أي أضممهن إليك، فتكون إليك متعلقة بصُرهُنّ.

[5]) المدثر: 6.

[6]) أو أن التراخي مراد منه دوام خلو الإنفاق عن المنّ، وتنفيس زمن بقائه، وتناسي المحسن الإحسان، ودوام ترك الامتنان، لا فقط مجرد نفي المن؛ كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) أي: داموا على الاستقامة دوامًا متراخيًا.

[7]) جملة (لهم أجرهم) خبر الموصول (الذين)، ولم تدخل الفاء على خبره كما هي العادة؛ وذلك لتخلص الموصول هنا من معنى الشرطية، فجاء كأنه إخبار مستقل عن معنى الشرطية؛ ليفيد تأكيد إثبات الأجر لمن ذكر، حتى كأنه ثابت لهم وإن لم يفعلوا، فكيف إذا فعلوا.

التبويبات الأساسية