المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 200- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

الحلقة (200)

 

(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[آل عمران:154].

(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا) الضمير في (أَنْزَلَ) يعود على لفظ الجلالة (أَمَنَةً) أي حصل لكم الأمنُ بعد الخوف، مفعول به، أو لأجله، مصدر كالمَنَعة، وتسكن ميمُه (أَمْنَة) وقرئ بها، على وزن فَعْلة صيغة المرة، لقلة مدة النعاس، وخفة وقوعه، ويصح أن يكونَ (أَمَنَة) جمع آمِن، كبررة وبار (نُعَاسًا) النعاس: النوم الخفيف، أو أوائل النوم وبدايته، والمهموم بهجوم النوم عليه يبدأ في التخلص من همّه.

الذي ذكر في الآية قبل هذه أنّ الله ابتلاهم، وأثابهم غمًّا بغمّ، أي ضاعفَ غمّهم بسببِ عصيانهم أمرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر في هذه الآية أنه سبحانه هو الذي عفى عنهم، وأنزل عليهم الأمنَ والنعاسَ، فبعدما أُصيب المسلمون في أُحد، وذهبوا في الشعاب، وأثابهم غما بغمٍّ، لا يلوي بعضهم على بعض، ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إليَّ عبادَ اللهِ)، فرجعوا إليه ليردوا عنه كيدَ العدو، وحينها أنزل الله عليهم الأمن، بأنْ غشيهم النعاس، والنعاس يدخلُ الراحةَ ويزيلُ الغمّ، حتى كان أحدهم كما قال أبو طلحة: “فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ”([1])، وكان هذا النعاس (يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)  أَهَمَّتْهُمْ مِن أهمَّهُ، إمّا بمعنى: جعله ذا همٍّ وحزن، أو جعله مهمًّا له، فلا تهمّه إلا نفسُه، والمعنى: يغشى النعاسُ طائفةً وُصفتْ بأنها منكم، مِن المؤمنين؛ ليؤمنهم، وطائفةٌ أخرى – وهي طائفة المنافقين – لا يغشاهم، الذين وصفوا بأنهم قد أهمتهم أنفسهم، أي أَدخلتْ عليهم أنفسُهم الهمَّ، بسبب ما لقُوا، والندم والحسرة على ما فاتهم، وعدم رضاهم بقدر الله، أو هم الذين لا يهمّهم إلا أنفسهم والنظر في مصالحها، لا أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وهذا هو شأن المنافقين في كل الأوقات، فإنهم (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) أي – أيضًا – من صفات هذه الطائفة المنافقة الذين أهمتهم أنفسهم، أنهم يسيئون الظنَّ بالله، فلا يظنون فيما يأتيهم منه أنه الحقُّ والعدل، بل يظنون بالله غير الظن الحق، وما لا يليقُ به، وهو ظنُّ أهلِ الجاهلية، الذين ضمُّوا إلى وصفِ اللهِ بالظلم الجهلَ والتخليطَ في صفاته وأقداره النافذة، عند حدوثِ أسبابها، وكذلك ظنُّوا ظنّ الجاهلية في وظيفةِ الرسالة، فجعلوها في أحسنِ أحوالهم قاصرةً على الدلالة والإرشاد، وإلّا فأكثرهم لا يقرّ أصًلا بأنها هدايةٌ وإرشادٌ، ومعناه أنهم يجعلونَها مجردَ علمٍ يصلُ إليهم، يأخذونَه أو يتركونَه على حدٍّ سواء، وليس معناها الهداية والاستقامة والطاعة والامتثال لما يسمعونه، ومِن هذا الظنِّ المخالفِ للحقِّ أنهم يقولون: (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)([2]) هذا مِن أقوالِ نفاقِهم، أي ظنّهم ظن الجاهلية مشتمل على هذا القول: (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي: غُرر بنا، وخُدعنا، وُعدنا النصرَ والظفر وأُتي بنا إلى هنا، ولم يُؤخذْ برأينا، فلم يكنْ لنا في مجيئنا اختيارٌ ولا رأيٌ ولا مشورةٌ، وما حلَّ بنا هو من صُنع غيرنا، وسوء رأيه وتدبيره، وَجَنَتْه علينا قلةُ خبرتِه ومعرفتِه بالحربِ وأساليبِ القتال، وهو قول ابنِ أُبَي رأسِ النفاق، يعرِّضُ بالنبي صلى الله عليه وسلم([3]).

(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلهِ) الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، قل لهم: الذي يعطي ويمنعُ، ويخفضُ ويرفع، ويعزُّ ويذل، وبيده أمرُ النصرِ والظفر، وكل آمر وناهٍ، هو الله وحده، لا ما تظنونه مِن ظن الجاهلية، أنّ ما نزل بالمسلمين وبطائفتكم مِن أهل النفاق، سببه أن الأمر لم يكنْ لكم، وتدبيره لم يسند إليكم (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) يكذبون، ويتظاهرون بالتسليم لما تَقولون، وأنهم مسترشدون بقولك مستفيدون منه، وحقيقة أمرهم على النقيض من ذلك، التنقص والتسفيه لكل ما يأتيهم من الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)([4]) أي ما يخفونه في أنفسهم مشتملٌ على قولهم: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، هذه حقيقتهم التي يتكلمون بها فيما بينهم، يقولون: قُتلنا ههنا لأننا لم نُسْتَشَر، وقائل ذلك معَتّب بن قُشَير المنافق ومَن معه([5])، وهؤلاء ممن لم يتمكنِ الإيمان في قلوبهم.

 

[1]) البخاري: 4562.

[2]) هذه الجملة بدل اشتمال من قوله: (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ).

[3]) قوله: (وَطَائِفَةٌ) مبتدأ، و(قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) صفة، و(يَظُنُّونَ) خبر المبتدأ، و(غَيْرَ الْحَقِّ) يصح أن يكون منصوبًا على المصدر المؤكد، باعتبار المضاف إليه، أي يظنون غير الظن الحق، المختص بالجاهلية، ويصح أن يكون غير الحق مفعولا به لـ(يَظُنُّونَ)، ويكون الظن بمعنى المظنون، و(ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) يكون حينها منصوبًا على المصدر المبين لنوعه.

[4]) جملة: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا) بدل اشتمال من قوله: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ).

[5]) تفسير القرطبي: 4/242. ومعتب ممن شهد بدرا وأحدا واختلفوا في نفاقه!

التبويبات الأساسية