بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (62).
(وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
(وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) (ما) اسم موصول (الملكَينِ) تثنية مَلَك، واحِدُ المَلائكة (بابل) مدينةٌ قديمة بالعراقِ، على ضفتَي الفرات (هَارُوتَ ومَارُوتَ) اسمُ الملكينِ، بدلٌ مِن (الملكين) (وما أنزل) معطوفٌ على قولِه: (مُلكِ سليمانَ) فاليهودُ والكهنة الذين يُعلِّمون السحر، اتّبعوا ما تَقوَّلتْه الشياطينُ، مِن نسبةِ مُلك سليمانَ إلى السحر، واتبعوا ما نزل على الملكين هاروت وماروت ببابل.
وكانت بابلُ اشتهرتْ بالسحرةِ، وكانوا استحوَذُوا على عُقول العامّة وأموالِهم، وسخَّروهم لخدمتِهم، وأسَّسوا لهم عبادةَ الأصنامِ والكواكبِ، وأوهَموهُم أنّهم واسطَتُهم للآلهةِ، ويفعلونَ فِعل الآلهة، فعظمَ الفسادُ مِن احتكارِ الكهنةِ لصَنعةِ السحرِ، وادعاءِ أنّهم آلهة أو وُسطاء، فكانت حكمةُ الله أنْ أرسلَ إليهم مَلكَين مِن الملائكةِ، وقيل: رَجلينِ صالحينِ، سمّاهما العامّة مَلكَين لِصلاحِهما، يكشفانِ أسرارَ وألَاعيبَ الكهنةِ، ويُطلعانِ العامّةَ على علمِ السحرةِ، الذي كانوا يحتكرونَهُ، وذلك ليتحرّروا مِن خُزعْبَلاتِهم وأباطيلِهم، وما يزعُمونَ أنهم قادرونَ عليهِ، شركاء للهِ فيهِ.
(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) الفتنةُ: الاضطرابُ الذي تختلطُ فيه الأمورُ، وتخرجُ عن العدلِ بالخوفِ والخطرِ على النفسِ أو الدينِ أو المالِ، حيثُ يشتدُّ الابتلاءُ، ولا يثبتُ إلّا مَن ثبتَهُ الله.
يحذرُ المَلكانِ مَن يعلمونَه السحرَ؛ أنَّ هذا العلمَ وإنْ دَعتْ إليهِ حاجةٌ في وقتِهِ، فهو ذو خطورةٍ عظيمة، حتّى إنّه الفتنةُ بعينِها، التي تؤدِّي إلى الكفرِ، وقد جاءَ الإخبارُ عنه بالمصدرِ (فِتنَةٌ) على وجهِ المبالغةِ، فكأنّ هذا التعليمَ لِشديدِ ضررِهِ، ليسَ شيئًا إلّا الفتنة (فَلَا تَكْفُرْ) لَا تعمَل بتعلُّمهِ عملَ السحرةِ، فتقع فِي الكفرِ.
(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) هذه إحدى مصائب تعلم السحر، يفرق بها الساحر بين الأحبة، بين مَن جعلَ اللهُ تعالى بينهما المودةَ والرحمةَ؛ المرأِ وزوجِه، بإفسادِ عقولِهما حتّى يتباغضَا ويتفارقَا، وتدمر حياتهما بتدميرِ الأسرة، وناهيك به من وبالٍ وشرّ.
(وَما هُمْ) ما هؤلاءِ الذين يتعلمونَ السحرَ ويعملونَ به (بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) أحد نكرةٌ في سياق النفي، تعمُّ نفي الضرِّ لكلِّ أحدٍ، بجميعِ صورهِ وأنواعِهِ، وأكّدَ عمومها بدخولِ الباءِ على ضارّينَ، ودخولِ (مِنْ) الاستغراقية على النكرة؛ فدلت بذلك على نفيِ احتمالِ أيِّ ضررٍ، مهما كانَ صغيرًا (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) إرادتِه ومشيئته؛ لأنّ الأسبابَ لا أثر لها إلّا بجعلِ اللهِ وقدرتِهِ، وهذهِ حقيقةٌ يجبُ استحضارُها دائمًا، بحيثُ لا تغيب عن عقيدةِ المسلمِ، الذي ابتليَ بالسحرِ أو بتعلمِهِ، أو سمعَ بويلات مَن تسلطَ عليهم أولياءُ الشيطانِ مِن عبادِ اللهِ - ظلما وعدوانًا - يجبُ دائمًا استحضارُ قوله: (وَمَاهُم بِضَارّينَ بهِ مِن أَحدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وذلك حتى لا تزلّ قدمُه، ويسند الضرَّ إلى السحرِ أو الكوكبِ أو غيرِهما مِن دونِ الله؛ فيكفر.
(وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) تعلمُ السحرِ كلّه ضررٌ؛ لأنّه يجرُّ إلى العملِ به، إذْ مجردُ العلمِ بهِ غير مقصودٍ ولا نافعٍ في الدّارين، فليس فيه نفعٌ البتةَ، وعطفُ و(لا يَنْفَعُهُمْ) على (مَا يَضُرُّهُمْ) يدلّ على أمرين:
الأول: وقوع الضررِ بتعلّم السحرِ، لأنّه مُلازمٌ للعمل بهِ، والعملُ بهِ بَيِّنُ الضّرر؛ كالتفريقِ والكرهِ الذي يدمرُ حياةَ النّاس، وكَخَبالِ العقولِ، وفسادِ الأبدانِ بالأمراضِ والأوجاع.
الثاني: أنّه لا يتحققُ به نفعٌ، فلا يصيرُ به المريضُ معافًى، ولا الفقيرُ غنيًّا، ولا البليدُ ذكيًّا، فهو ضرر محضٌ (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ولقد علمُوا عطفٌ على جملةِ (واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ) فالضميرُ في (عَلمُوا) راجعٌ إلى اليهودِ أيضًا.
(لَمَن اشْتَرَاهُ) مَن أخذَه مِن السحرة ومَن يتردَّدونَ عليهم، ويتبادلونَ بينَهم العوضَ (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلَاقٍ) ليس لواحدٍ منهم نصيبٌ ولا حظٌّ يرجونَهُ في الآخرةِ، ولا يكادُ يستعملُ الخلاقُ إلّا فِي الخيرِ، وهو نكرةٌ في سياقِ النفيِ، أكِّد نفيُها بمِنْ الاستغراقية؛ ليدلَّ على انقطاعِ الساحرِ عن الخيرِ انقطاعًا كاملًا، لا أثرَ فيهِ لنفعٍ.
(ولبئس مَا شَرَوْا به أَنفُسَهُمْ) لبئس اللامُ للقسمِ، وبئسَ مِن أفعالِ الذمِّ، وشرَوا باعُوا وبَذَلُوا، لبئسَ ما تسبّبُوا فيه مِن خسارةِ أنفسهم، فقد أعطوا أعزَّ ما يملكونَ - وهو إيمانُهم - مقابلَ ما تعلّموهُ مِن السحرِ، فبئسَ الصفقةُ الخاسرةُ، ما أخذُوا فيها وما أَعطوا (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لو حرفُ امتناعٍ لامتناعٍ، نَفَتْ عنهم العلمَ، ولا تعارُضَ في نفيه عنهم مع إثباتِه لهم في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا)؛ لأنّ المنفيَّ غير المثبت.
المثبتُ هو علمُهم بأن صاحبَ السحرِ لا حَظَّ له مِن الخيرِ عند ربّه، والمنفيُّ عدمُ عمَلِهم بما علِموا، وعبّر عنه بنفي العلمِ ؛ لأنّ مَن لمْ يعمَل هو والجاهلُ سواءٌ.