بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (138).
(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[البقرة:263-264].
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ[1] وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) التنكير في (قول) للتقليل، أي: أقل شيء من قول المعروف للسائل خير من صدقة تعطى له مصحوبة بأذى، والأذى: كل ما يُتأذى منه، كالمنِّ والتقريع والنصيحة على الملأ، والقول المعروف: ردُّ السائل باللطف والقول الحسن الهين اللين، الذي لا يجرح، الدالّ على حفظ كرامة السائل وحسن الخلق، وقد ورد: (إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)([2]).
والمغفرة: الصفح والتجاوز، وهي مطلوبة من الطرفين؛ من المسؤول، بأن يغض ويتجاوز عن السائل الملحف الملحاح الجافي، فلا يعنفه أو يشتمه، ومن السائل بأن يتجاوز ويغضّ عن الرد الجارح مِن المسؤول، إذا بخل أو نهره، ويجد له في نفسه العذر.
أو المغفرة هي من الله على قول المعروف، فالقول المعروف والخلق الحسن صاحبه يطمع في المغفرة، ولو لم يصحبه إنفاق، وصاحبه أفضل وأكثر أجرًا مِن الذي أنفق بسوء خلق، وسبب أذى لمن أنفق عليه، وأتبع صدقته بالمن والأذى، كالاغتياب ونحوه (وَاللهُ غَنِيٌّ) عن صدقات تلحق الأذى (حَلِيمٌ) يعفو ويقبل توبة من أخطأ وندم.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) (تُبْطِلُوا) من الإبطال والبطلان، وهو ذهاب أثر العمل، فلا ينتج عنه شيء، إلا التعب وذهاب الجهد والمال، بحيث إن كان الإنفاق فرضًا فتجب إعادته، ولا تبرأ به الذمة، وإن كان تطوعًا فإبطاله بذهاب أجره (كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)[3].
الرئاء: إظهار أحدٍ المعروفَ لأجل أن يراه الناس، فيحمدوه، أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى، كإبطالِ مَن ينفقُ ماله لأجل الرياءِ وثناءِ الناس عليه، وحاله في اليأسِ مِن ثوابِ عملهِ، وفي ذهابه بلا شيءٍ، كحالِ مَن لا يؤمنُ بالله واليوم الآخر (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) صفوان: صخر أملس رقيق (وَابِلٌ) أصابه مطرٌ غزيرٌ منهمرٌ (صَلْدًا) جَرفَ ما عليه، وتركه أملسَ نقيًّا، ليس عليه شيء (لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا)[4] لا ينتفعون، ولا يتحصلون من عملهم على شيءٍ سوى الكدِّ والتعبِ.
وبسبب ضعف النفس البشرية، وميلها للمنِّ بالمالِ والأذى عند الإنفاق، عقبَ القرآنُ الإغراءَ على الإنفاقِ وتضعيف الأجر فيه، بالتحذير من المنّ بأساليب ثلاثة متنوعة، لم يغفل فيها ضرب الأمثال.
الأول: بالوعد بالأجر العظيم لمن نزهَ نفسَه عنه (ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
الثاني: بأن قول المعروف مع عدم الإنفاق، أفضل وأعظم من الإنفاق المصحوب بالمنّ والأذى.
الثالث: نداء أهل الإيمان، وتحذيرهم مِن أنّ المنَّ والأذى يعرضُ الصدقة للبطلان، ويصير حال صاحبها أشبه بحال الكافر، الذي ينفق رياء ليراه الناس ويحمدوه، لا طاعة لله تعالى، ومثّل القرآن ما يرجوه المانُّ من نفقته بحال طبقة من التراب على صخرة ملساء، يزرع عليها الزارع يظنها منبتة صالحة، يزرع عليها ويتعب نفسه فيها، فيأتيها وابل من المطر يجرف ما عليها من زرع وتراب، ويتركها ملساء نقية، ليس عليها شيء، فلم يتحصل على شيء، كمن ينفق رياء أو يمنُّ، أيضًا هو لا يتحصل على شيء، يذهبُ ماله، ويذهب أجره، كما قال القائل:
إذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصًا مِن الأذَى |
فَلا الحَمدُ مكسوبًا وَلا المالُ باقِيَا |
(وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) تعريضٌ بأن المنّ والأذى مِن صفات الكافرين.
[1]) قول مبتدأ، سوغ الابتداء به وصفه بـمَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ مبتدأ ثانٍ، نكرة معطوف، والمعطوف تابع لا يحتاج إلى مسوغ.
[2]) المستدرك على الصحيحين: 427.
[3]) الكاف في (كالذي) في محل نصب على المصدر، بتقدير: لا تنفقوا إنفاق الذي ينفق رياءً، أو في محل نصب على الحال، أي: لا يكن حالكم في الإنفاق حال الذي ينفق مَالَهُ رِئَاءَ الناس، ويقال رياء، بإبدال الهمزة الأولى ياء لكسر ما قبلها، ونصبُ رئاء إمّا على المفعول لأجله، أي: ينفق لأجل الرياء، أو على الحال، بتأويل مرائيًا، أو على المصدر، أي: كالذي ينفق إنفاق رياء.
[4]) ضمير الجمع في (يَقْدِرُونَ) و(كَسَبُوا) يعود على الموصول (الذي ينفق)، مراعاةً لمعناه؛ وهو جنس مَن ينفق، بعد أن روعي لفظ الموصول بعود الضمير عليه مفردًا في قوله: (يُنْفِقُ) و(لَا يُؤْمِنُ).