المنتخب من التفسير -الحلقة 310 - سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

 المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

 الحلقة (310)

 

[سورة المائدة:103-104]

 

(مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلكَذِبَۖ وَأَكثَرُهُم لَا يَعقِلُونَ)(103)

جعل هنا بمعنى شرع، أي ما شرع الله شيئًا مِن هذا الذي اخترعه أهل الجاهلية، فحرّموا به ما أحله الله، مِن الانتفاع ببهيمة الأَنْعَام، وقوله (بَحِيرَةٍ) وما عطف عليها، كلها نكرَات في سياق النفي، أُكدت بحرف الجر (مِنْ)، فأفادت تأكيد استغراق نفي الجنس لكل واحدة من المذكورات، والبَحِيرة فعيلة بمعنى مفعولة، مِن البَحْر، وهو شقُّ أذن الناقة إذا نُتجت خمسة بُطُون، أو عشرة عند بعض قبائلهم، فيبحرون أذنها، يشقونها بالطول، ويجعلونها للآلهة، فلا يركبها أحد، ولا تُمنع من ماء ولا كلأ، ولا يتعرض لها أحد (وَلَا سَائِبَةٍ) ولا شرع الله السائبة، وهي كالبحيرة، يقول الرجل منهم: إنْ شُفيت أو قدم المسافرُ فناقتي سائبة، تُترك ولا يتعرض لها، فهي مَسْيوبة متروكة (وَلَا وَصِيلَةٍ) الوصيلة فعيلة بمعنى فاعل، واصلة، هي النعجة إذا ولدت أنثى كانت لهم، وإذا ولدت ذكرا كان للآلهة، وإذا توأمت قالوا: وصلت الذكر بالأنثى، فسموها وصيلة، وجعلوها للآلهة كالتي قبلها (وَلَا حَامٍ) الحام الفحل من الإبل، الذي نتج من صلبه عشرة أبطن، سموه حامًا لأنه حُمي ظهره من الركوب ومن العمل، وتُرك للآلهة، لا يمنع من ماء ولا من كلأ.

والذي تولى كبر هذا الإثم من أهل الجاهلية – وله منه النصيب الأوفر – عمرو بن عامر بن نوفل الخُزاعي؛ لأنه أول من سيب السائبة، وهكذا الشأن في الضلالات التي يتهالك عليها الناس، مِن فساد في الأخلاق أو المال أو الحكم أو الدماء، يصيب الإثم كلّ من ضلع وشارك فيه، لكن يبقى الحظ الأوفر من العذاب والنصيب الأكبر، ينزل بمن كان السبب الأول الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ)([1]).

وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) فائدة الاستدراك بلكن، التأكيد على كذبهم على الله وكفرهم، حتى لا يتوهم صدقهم وصواب عملهم، لطول العهد بما ألفه الناس من باطلهم، والكذب على الله هو تحريم ما أحله الله، قال الله تعالى: ﴿قَد خَسِرَ ٱلَّذِینَ قَتَلُوا۟ أَوۡلَٰدَهُم ‌سَفَهَا بِغَیرِ عِلم وَحَرَّمُوا۟ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفتِرَاۤءً عَلَى ٱللَّهِ﴾([2])، والمفتري الأول ورأس الكذب في هذا التحريم عمرو بن لحي، ولكن نسب الافتراء والكفر إليهم جميعًا لأنهم انجروا وراءه، ولم يستعملوا عقولهم، قالوا كما أخبر القرآن: ﴿إِنَّا وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةࣲ وَإِنَّا عَلَىٰۤ ءَاثَٰرِهِم ‌مُّقتَدُونَ﴾([3])، وهو معنى قولهم في هذه الآية:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَيهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعلَمُونَ شَيـٔٗا وَلَا يَهتَدُونَ)(104)

فعل (تَعَالَوْا) أمر بطلب الحضور والإقبال، وقوله (إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ) هو القرآن، والإقبال عليه يكون بالسماع والتدبر، وقوله (وَإِلَى الرَّسُولِ) أي الإقبال على الرسول يكون بحضور مجلسه في حياته، والرجوع إلى سنته بعد مماته، وقوله (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، تعجب من حال المشركين، كانوا إذَا دعوا إلى أن يُعملوا عقولهم ويتبعوا الدليل، بسماع ما أنزل الله من القرآن، وسماع ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، حجروا على عقولهم، ومنعوها من السماع، وقالوا: لا نسمع ولا ننظر في شيء، يكفينا تقليد آبائنا، واتباعهم فيما وجدناهم عليه.

و(حَسْبُنَا) من (حَسْب) وهو اسمُ فعلٍ بمعنى يكفِينا([4])، والإقبالُ المأمور به في قوله (تَعَالَوْا) يمكن حمله على المعنيين؛ فالإقبالُ إلى القرآن إقبالُ سماعٍ ونظرٍ وتفكرٍ، والإقبال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إقبالُ مجالسةٍ وحضور، ولاختلافِ معنيي الإقبالِ أُعيدَ حرفُ الجر (إِلَى) باختلافِ المتعلّق؛ اللهُ والرسول.

والواو الواقعة بعد الهمزة في قوله: (أَوَلَوْ) للحال، والهمزة للاستفهام الإنكاري، أيكفيهم اتباع آبائهم؟ والحال أن آباءهم جهلةٌ ضالّون، ليس لديهم شيءٌ من علمٍ ولا هداية، والشأنُ فيمن يقتدَى به هو المعرفةُ والعقلُ، لا الجهلُ والسَّفَه، والهدايةُ، لا الغوايةُ والضلالة.

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيكُمۡ أَنفُسَكُم لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهتَدَيتُم إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ)(105)

إذا ظهرت المكابرة ممن دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، ولم تنفع معهم الحجج، فلا يملك أهل الحق من المومنين لهم من الله شيئا، وقد يلومون أنفسهم لعجزهم عن إقناعهم، والأخذ بأيديهم، فخاطبهم الله تعالى بما يرفع عنهم اللوم والحرج (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الزموا هداية أنفسكم عندما لا يسمع الآخرون إلى نصحكم ودعوتكم، فالزموا أنتم الاستقامة.

فـ(عَلَيْكُمْ) اسم فعل أمر بمعنى الزموا، وتلحقه الضمائر كما تلحق فعل الأمر؛ تثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا، عدا ضمائر الغيبة؛ لأن الأمر للغائب يكون بلام الأمر مع المضارع.

وقوله (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) نزلت فيمن آمنوا وكانوا يأسفون على عدم إيمان الكافرين، فقيل لهم: لا يضركم كفرهم، ونفي الضرر عنهم مشروط بقوله (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ومن اهتدائهم ألا يقصروا في أمرهم ونهيهم.

وفهم بعض الناس من قوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أنهم في سعة من الأمر والنهي، ما داموا ملتزمين في أنفسهم، وهو تأويل فاسد أبطله الحديث الآتي، فعن أَبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}؟ قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ – يَعْنِي – بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ)، وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)([5]).

وبَلَغَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بترك الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فقَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ، يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ”([6])، وقُرئت الآية عند ابن مسعود رضي الله عنه فَقَالَ: “إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا، إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ (أَيِ النَّصِيحَةُ) وَلَكِنْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ”.([7])

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) الظرف إلى الله متعلق بمرجعكم، وقدم عليه لما في اسم الجلالة من إدخال الرهبة والخوف من التقصير عند الرجوع إليه، فهو تعالى بنفسه يتولى حساب المقصرين في الدعوة إليه، وقوله (فَيُنَبِّئُكُمْ) من الإنباء والإخبار بالأعمال التي عملوها، والإخبار بها من القادر الغالب على أمره معناه محاسبتهم عليها، فالإنباء يتضمن وعدًا لمن وفَى وأدَّى ما عليه من النصح، ووعيدًا لمن غشَّ وسكت عن المنكر، وأُتي بقوله (جَمِيعًا) لتأكيد أن ذلكَ المرجعَ والمصير لا مهربَ لأحدٍ منه.

 

[1]) البخاري: 4623، مسلم: 2856.

[2]) الأنعام: 140.

[3]) الزخرف: 23.

[4]) وعليه يكون (ما وجدنا) فاعلا، ويصح أن تكون (حَسْبُنَا) مصدرا، فتعرب مبتدأ، وخبره (مَا وَجَدْنَا).

[5]) أبوداود: 4341.

[6]) أبوداود: 4338.

[7]) تفسير الطبري: 11/141.

التبويبات الأساسية