بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (122).
(وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [البقرة:229-230].
الخطاب في (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) للأزواج، والضمير في (آتَيْتُمُوهُنَّ) للمطلَّقات، وقوله: (شَيْئًا) أي مالًا، وجاء التعبير به عن المال، ووقوعه نكرة في سياق النفيِ؛ ليدلَّ على حرمة ما أُخذَ، ولو كان مِن القلة بحيث لا يسمى مالًا، والمعنى: لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئًا مما أعطوه مهورًا للنساءِ - مهما كان قليلا - إذا أرادوا التطليق (إِلَّا أَنْ يَخَافَا) أي الزوجان (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) الخوف من عدم إقامة حدود الله؛ خوف الزوجين من عدم القيام بحدود الله، هو خوف الزوجة إذا أكرهتْ نفسَها على البقاء مع زوجٍ لا تحبُّه، وخوفُ الزوج أن يحبسَها معه وهو كاره لها، فيظلمها، فإن وجد هذا الخوف جاز بدل المال للزوج ودفع العوض له للوصول إلى الطلاق، وجعل أهلُ الظاهر هذا الخوف شرطًا في حلِّ أخذِ العوضِ، فلا يحل عندهم خُلعٌ دونَ خوف هذا الضرر، وذلك على نحو ما كان مِن امرَأةِ ثَابِتِ بنِ قَيسٍ، (الّتي جاءتْ إِلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً)( ). ونسب الخوف إليهما في قوله: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا)، وإن كانت الزوجة في سبب الخلع هي الخائفة؛ لأنه إذا كرهته أساءت معاملته، فيسيءُ هو معاملتها، فيؤدي إلى الخوف مِن ظلمهما معًا، ولأنه بعدم استجابته للطلاق، وهي تريدُ أنْ تفدي نفسَها خوفَ ألَّا تقيمَ حدودَ الله، يكون شريكًا لها في الظلم الذي يقع عليه منها، ويؤخذ منه أن الآخذ والمعطي للمال في ما هو حرام سواء، فمَن يعطي الرشوةَ هو كالذي يأخذُها (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) والخطاب في قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ) للحكام، وحدود الله هي الأوامر والنواهي الشرعية، وإقامتها العمل بها، والتقيد بما جاء فيها، واستدل به أهل الظاهر على أن الخلع لا يمضي إلا بحكم من الحكام والقضاة، وجوزه الجمهور بدون حكم؛ لأن الخطاب ليس صريحا في كونه للحكام، وعلى التسليم فهو محمول على أن الغالب في الشقاق أن يرفع إلى الحكام، والمعنى: فإن خاف الحكام ألا يقيم الزوجان حدود الله، ولا يحفظ كل واحد منهما حقّ الآخر (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) لا إثم على الزوجة فيما فدت به نفسها، وأعطته لزوجها من المال؛ لتتوصل إلى الطلاق منه بالخلع، ولا إثم على الزوج فيما أخذ منها من الفدية، ما دام عن طيب نفس من المرأة، ولم يكن عن إضرار من الزوج بها، فإنْ أخذَ الزوج المال عن إضرار بها، اضطرها إلى الخلع منه وخالع مضى الطلاق، ووجب عليه ردُّ المال؛ لأنه أخذه من غير حق، وإطلاق قوله: (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) يدلُّ عند الجمهور على جواز الخلع بما قل وكثر، ولو بما زاد على المهر، فإن الإبهام الذي دلت عليه ما الموصولة في قوله: (فيما) يشمل القليل والكثير، وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق أخذ الزائد على قدر المهر، ولم أر أحدًا من أهل العلم يكرهه - أي يحرمه - ومَن منعَ أخْذَ ما زاد على قدر الصداقِ استدلّ بما تقدم في قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا). (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحدودُ: الأحكام الشرعية، والتعدي عليها مخالفتها، والإشارة بـ(تِلْكَ) إلى ما تقدم من الأحكام المتعلقة بالطلاق والرجعة، والتربص بالعدة، وحقوق كل من المرأة والرجل، والفدية، والخلع، كل هذه حدود وأحكام حدّها الله تعالى، فلا تعتدوا عليها وتتجاوزوها، فمَن فعل ذلك فهو ظالم، مستحق لما توعد الله تعالى به الظالمين، قال تعالى: (وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا)( ). (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) هذا تفريع عن قوله: (الطلاق مرتان) والمعنى: فإنْ طلقها بعد المرتينِ فتحرمُ على الزوجِ، ولا تحل له بعد الثالثةِ حتى تنكح زوجًا غيره، وفي قوله: (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) إشارة إلى أن المطلق للمرة الثالثة دون سبب وجيه، لغضب أو لانفعال عابر هو مفرط، لاستخفافه وتهاونه بما جعله الله ميثاقا، فجعله لعبة، وحوله إلى أداة للعقاب، خاضعة لتسلطه ومزاجه، ولم يستفد من الفرص التي جعلت له في المراجعة، المرة بعد المرة، ولم يكبح جماح نفسه ويصلح خللها حتى وقع في ثالثة الفراق، التي ليس معها رجعة ولا وفاق، إلّا بعد أن يصيبه ما يؤلمُ نفسه، ويأنف منه طبعه، فتنكح امرأته زوجًا غيره، وفي ذلك ما يثير فيه الغيرة، لقراءة العواقب التي تحمله على التريث والتأني، وعدم الاستعجال، فإن تذكيره بأن بالثالثة تكون امرأته لرجل غيره، يحمله على مزيد التأني والتعقل، عندما يريد أن يطلق، وتعظيما للنكاية اشترط في نكاح الرجل الآخر أن يكون نكاح رغبة، يحصل فيه الوطء، وذوق العسيلة، ولا يكتفي فيه بمجرد العقد، الذي قد يهون أمره، وذلك لما دل عليه حديث امرأة رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ، لما جاءت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِى فَأَبَتَّ طَلاَقِى، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)( ). وذكر الخلع اعتراض بين طلقتي الرجعة الأولى والثانية وبين الثالثة، التي لا رجعة فيها؛ لبيان أن الطلاق يكون مجانًا بغير عوض ويكون بعوضٍ، وليس هو طلاقٌ رابع (فَإِنْ طَلَّقَهَا) الزوج الثاني راغبًا عنها، دون تواطؤٍ على التحليل عند عقد النكاح من الزوج الثاني (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) يجوز للأوَّلَينِ أن يتراجعَا بعد طلاق المرأة من الزوج الثاني، إن ظنّ الأولان أنهما سيعملان على إصلاح ما فسد، ويحفظ كل منهما حقوق الآخر، ويقيم حدود الله، وأسندت إرادة الرجوع إلى الزوجين؛ لأنَّ الطلاق في الطلقة الثالثة بائنٌ، يشترط في الرجوع بعده إذن الزوجة. وإضمار نية التحليل بالزواج الثاني دون اشتراطها في العقد لا يضر، والذي يضر هو اشتراط التحليل في العقد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلّلَ له) . (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الإشارة (وَتِلْكَ) إلى الأحكام المتقدمة للتأكيد عليها، وأنها حدود، لا يجوز تعديها لكل من كان له علم بعواقب الأمور، وبأنه لا محالة سيقف على ما قدمت يداه، إنْ تعدّى حدود الله.