المنتخب من التفسير -الحلقة 246- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (246)

[النساء:78-79].

 

(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء:78].

كان المبطِّئُون الذين يتخلفونَ عن المسلمين عند الخروج للغزوِ يخشَون القتالَ؛ لأنّ ذلكَ حسبَ زعمِهم يحققُ لهم أمرّينِ: الاستمتاع بالدنيا، واستبقاء الحياة، فردّ الله عليهم في الأمر الأولِ – قبلَ هذه الآية – بقوله (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) وعن استبقاء الحياةِ بقوله في هذه الآية: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ) فليسَ لأحدٍ من الموتِ مهربٌ أينَما حَلَّ، فلا معنى للفرارِ هربًا من الموت، كما يفعل المنافقون، فـ(أَيْنَمَا) أداةُ شرطٍ، تعمُّ جميعَ الأمكنة، ليس هناك مكانٌ محصنٌ يمنع الموتَ إذا جاءَ أو يؤخِّرُه([1]).

والبُرُوج: الحصون، من التبرجِ وهو الظهور، ومنه تبرجُ المرأة إذا أظهرتْ مفاتنَها، سُميت الحصونُ بذلك؛ لارتفاعِها وظهورِها، والمشيدة: من الشَّيْد، وهو الجصّ، أي المرتفعةُ المبنيةُ بالجصِّ.

(إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ) تصبهم: تأتِهم، والحسنةُ: النعمة والخير، والسيئةُ: البليةُ والنقمةُ، وليس المراد بالحسنة والسيئة المعاصِي والذنوب (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللهِ) الكلُّ في الحقيقة هو مِن عند الله، الخير والشر، فنسبةُ الخير والشرِّ إلى الله نسبةُ خَلقٍ وتقدير، فلا يقعُ شيءٌ في الكونِ إلَّا بإذنه وبمشيئتهِ (فَمَالِ هَؤُلَآءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ) لا يكادونَ: كاد مع النفي تفيدُ وقوعَ الفعل بعد مشقةٍ، ومع الإثبات تفيدُ نفي وقوعه، فيقال لمن أراد فعلَ شيء ولم يفعله: كادَ يفعله (يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) يفهمون كلامًا يُلقَى إليهم، لا يكادونَ يفهمونَ معانيَ الكلامِ ودقائقَهُ؛ لأنهم لا يريدونَ ذلك، فقد شقَّتْ عليهم معرفةُ حقائقِ القَدَر، حين ينسبونَ بعضَ الأقدار إلى الله تعالى، وبعضَها إلى غيره، كانَ المنافقون وبعض الأعرابِ حديثو العهد بالإسلام، إذا أتاهم الخيرُ والخصبُ والعافية والرزقُ، قالوا: هذا جاءَنا من عند الله، وإن أتتهمْ بليةٌ ونقمةٌ، بأنْ جاءَهم الجدبُ، وتكدرَت حياتُهم بالأسقامِ، وفقدِ الأموالِ والأولادِ، وحصولِ ما ليس بملائمٍ ولا مرغوبٍ لهم، قالوا: هذا مِن عندك، أي أنَّ ما حلّ بهم ما هو في فهمهم المنحرفِ إلَّا شؤمٌ جرّه عليهم ظهورُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بينهم، كما قال تعالى عن بني إسرائيل: (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهِ)([2])، وهذا كما جاء فِي الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ)([3])، قال: (كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ)([4]).

(مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا) [النساء:79].

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) الخطاب عام لكل من يتأتى منه الخطاب، ويدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم دخولًا أوليًّا، نسَبتِ الآيةُ الخيرَ إلى الله؛ لأنهُ المتفضلُ به، والمُقدِّر له ولأسبابهِ، ونَسَبتِ الشرَّ إلى العبد؛ لأنه فاعلُ السببِ، ولم يُنسبِ الشرُّ إلى الله، مع أنه بقدَرِه ومشيئتِهِ؛ تأدبًا مع الله، فلا ينسبُ الشرُّ إلى اللهِ استقلالًا، من باب الأدب، فلا يقال: اللهُ قاتلُ الأنبياءِ، وإنْ كان سبحانَه هو الذي يَتوفَّى الأنفُسَ، قال الله تعالى عن إبراهيم: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)([5])، فنسبَ المرضَ إلى نفسهِ والشفاءَ إلى الله،  وإن كان المرضُ لا يقع إلا بإذن الله، وقال مؤمنو الجن: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)([6])، فأسنَدوا الرّشدَ إلى الله، وبنوا فعلَ إرادةِ الشرِّ للمجهول، وقال صلى الله عليه وسلم مخاطبًا ربه: (الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)([7])، وهذا ما قاله الصدِّيق رضي الله عنه حينَ سُئِلَ عَنِ الْكَلاَلَةِ، فَقَالَ: إِنِّي سَأَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّى وَمِنَ الشَّيْطَانِ([8]).

ولذا قال بعضُ أهل العلم – في الفرق بين قوله عن الحسنات والسيئات: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ) بلفظ (عِندِ اللهِ) وقوله عن الحسنات: (فَمِنَ اللهِ) بلفظ (مِنَ اللهِ) – قالوا إنّ (مِّنْ عِندِ اللهِ) يعمُّ ما يرضاه الله، ويأمرُ به من الخير، وما يسخطُهُ، وينهى عنه مِن الشرور، وأما (فَمِنَ اللهِ) فلا يقال إلَّا فيما يرضاه، ويأمرُ به، لا ما نَهى عنه، ولذا قال تعالى عن السيئة (فَمِن نَّفْسِكَ).

ونُسبتِ المصائبُ والشرور إلى النفس؛ لأنَّ من أسبابِها المعاصي والذنوب، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)([9])، وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ -أي شيء قليل مثل عثرة الرِّجل ونحوها-[10] فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ)([11]).

(وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) أي: أرسلناك إلى الناسِ عامةً حالةَ كونك مرسلًا ومبعوثًا من الله؛ للتبليغِ وهدايةِ الخلق، لا لشيءٍ آخر، فذِكْر (رَسُولًا) الحال المؤكدة؛ للتنبيه على أن هذه هي الوظيفة التي بُعثتَ بها، فمَن ينسبُ إليك الإتيانَ بفعل الشرور، أو أنكَ سببُها، أو نفعَ أحدٍ أو ضرَّه، جاهلٌ مكابرٌ، لا يعرف الرسالةَ ولا وظيفةَ الرسول (وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا) كفى به شهيدًا عليكَ، بأنك بلغتَ الرسالة، وأديتَ ما أُمرتَ به على أكملِ وجهٍ، وشهيدًا على مَن خالفَك، ونَسبَ إليك ما برَّأكَ الله منه، ولم تفعلْه، وسيحلُّ به ما يؤلمه، وما شهدَ اللهُ به عليه.

[1]) قوله (يُدْرِككُّمُ) بالجزم جوابُ الشرط، وقُرئَ بالرفع، على إضمارِ الفاء في الجواب، على تقدير: أينَما تكونُوا فيُدرِكُكُم، أو فإنَّ الموتَ يدركُكُم.

[2]) الأعراف: 131.

[3]) الحج: 11.

[4]) البخاري: 4742.

[5]) الشعراء: 80.

[6]) الجن: 10.

[7]) مسلم: 201.

[8]) الدارمي: 3015.

[9]) الشورى:30.

[10]) رسولًا: حالٌ مؤكدةٌ لعاملِها (أرسلناك)، وقوله (لِلنَّاسِ) متعلق بـ(أَرْسَلْنَاكَ) و(ال) فيه للجنس، تفيدُ الاستغراقَ والعُموم.

[11]) الترمذي:3252.

التبويبات الأساسية