المنتخب من التفسير -الحلقة 249- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (249)

[النساء:85-87]

(مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا)[النساء:85].

الشفاعة: الوساطة في الخير خاصة؛ لقضاء الحوائج، فمِن الشفاعة الحسنة إصلاحُ ذاتِ البين، ودعوةُ أولي الأمرِ وأصحابِ الشأنِ إلى القيامِ بأمرِ الله، وأمرُهُم بالمعروف ونهيُهم عن المنكر،  وإيصالُ الحقوق إلى أصحابِها، وردُّ المظالم، والسعيُ في إنصافِ المظلومين، وإطلاق سراح المعتقلين ظلمًا في السجون، ونحو ذلك، وتكونُ الشفاعةُ الحسنة أيضًا بدعوة الناس إلى القيام بأمر الله، ومنه تحريضُ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنينَ على الجهاد، وهو وجهُ ارتباطِ الآية بما قبلَها، فإنَّ التحريضَ على الجهاد مِن الشفاعة الحسنة، وفي معنى الشفاعةِ الحسنةِ الشفاعةُ بالدعاء بظهرِ الغيبِ للمشفوعِ المدعوِّ له، وقوله (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً) يعني يتوسطُ وساطةَ سوءٍ بمعصيةٍ أو حرامٍ، كإفسادِ ذاتِ البينِ، وكلِّ ما هو معصيةٌ، مثل العقود المحرمةِ؛ كعقودِ الربا، والقمار، والوساطة بدفع الرشاوى للوسيط الذي يتقاسم مع الموظفِ المعطّلِ العملَ، فإنّ مَن يملكونَ التوقيعات في الوظائفِ العامة يجعلونَ وسطاءَ، ولا ينجزونَ أعمالَهم إلّا بما يأخذونه مِن أصحابِ الشأنِ عن طريق الوسطاءِ مِن المالِ الحرام، وسميتْ وساطةُ السوءِ شفاعةً من بابِ المقابلةِ والمشاكلةِ للفظِ الشفاعةِ الحسنةِ، وإلَّا فإنّ الشفاعةَ لا تكونُ إلّا في الخير،  ووصفُها في الآية بالحسنة وصفٌ كاشفٌ لبيان الواقع، لا مفهوم له، ولا يدلُّ على أنّ هناك شفاعةً سيئةً غير حسنة، والنصيب: الحظّ، والكفلُ بمعناه، ويطلقُ على المثْلِ، كقوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ)([1])، أي مِثْلينِ، ويستعملُ في الشر، ومنه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا)([2]) (مُقِيتًا) من أَقات، إذا قدَّم القوتَ الذي تُحفظ به الحياة لغيره، فالمُقيتُ: الحافظ، والمقتدر، والرقيب، وهو تذييلٌ للترغيب في الوساطة الحسنة والتحذير من الوساطة السيئة، فلينظرْ أحدُكم فِيمَ يتوسطُ ويشفعُ، فإنَّ اللهَ رقيبٌ عليه، مجازيهِ بعملهِ.

(وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)[النساء:86].

التحية: مصدرٌ من حيّاك الله، أي الدعاء للمخاطب: أعطاكَ الله طولَ الحياة، وكانت هذه تحية الملوك، وتحيةُ الإسلام: السلامُ عليكم، وأكملُها بزيادةِ: ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، ومعناها: الدعاء بالسلامة من أنواع الآفاتِ والمضَارّ، وبحصولِ المنافعِ من الرحمة والدعاء بدوامِها؛ لأنّ البركة معناها ثبوتُ الخيرِ الإلهي في الشيء، واشتقاقها يدلُّ على اللزوم والثبات، كالبركِ لجماعةِ الإبلِ الباركة، ومنه: بِركة الماء، للماء الدائم المستقر غير الجاري.

والبدءُ بالسلام للداخل والمارّ سنةٌ، ليس واجبًا؛ لقوله (وَإِذَا حُيِّيتُم) دون أمرٍ به، وردّها واجب؛ للأمر به في قوله (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) ومعنى ردّها ردّ مثلها، لا ردّها بعينها، فيقال في الردِّ لَا في البدء: وعليكم السلام، والبدء بعليكم السلام تحية الموتى، كما في حديث أَبِي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى)([3])، وكان العربُ في أشعارهم لا يبدؤونَ بالردِّ إلا في قصائدِ الرثاء.

ووجوبُ الردِّ على الجماعة وجوبُ كفايةٍ، عند أكثر أهلِ العلم، إذا قامَ به واحدٌ سقطَ عن الباقين، وتقديم قوله (بِأَحْسَنَ مِنْهَا) على (أَوْ رُدُّوهَا) يدلُّ على أفضلية الردِّ بالأحسنِ على الردِّ بالمثل، والردّ بالمثل أن يقال: وعليكم السلام، لمن قال: السلام عليكم، وبالأحسن أن يزاد: ورحمة الله وبركاته، ومن قال ذلك، وأتى بالأحسنِ في البدءِ لا يزادُ عليه؛ لِمَا وَرَدَ أنّ رجلًا قَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللهِ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَتَاكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَحَيَّيْتَهُمَا بِأَفْضَلَ مِمَّا حَيَّيْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لَنْ أَوْ لَمْ تَدَعْ شَيْئًا، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ، فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، فَرَدَدْتُ عَلَيْكَ التَّحِيَّةَ)([4]).

(إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) الحسيب: العليمُ المطلعُ، من حسِب بمعنى علمَ، وعُدّى الحسيب بـ(على) لتضمينه معنى المحصِي، فالله سبحانه عليمٌ مُحصٍ للأعمال كلِّها، لا تخفَى عليه خافيةٌ، يحاسِبُ عليها، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، فمَن وَفَّي في ردّ التحية وفّاه، ومن تركَ ما يجبُ عليه مِن ردّها حاسبَهُ وعاقبَه.

(اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا)[النساء:87].

اسم الجلالة: مبتدأٌ، وجملة (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) معترضة؛ لتأكيد ما في معنى اسم الجلالةِ مِن التوحيد، وتعظيمِ اللهِ وتمجيدِه، وهذه القاعدةُ في الجملِ الاعتراضية، يؤتى بها في الكلامِ البليغ؛ لتأكيدِ مضمون ما قبلَها، وجملة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) اللامُ لامُ القسم، جوابًا لقسم مقدّر، والجملة في محلِّ خبرِ المبتدأ، وليست اللام هذه لام التأكيد؛ لأن لام التأكيد لا تدخلُ على الخبر، والتقدير: واللهِ ليجمعنّكم، وقد أُكدت جملة القسم بثلاثة مؤكدات؛ تقديمُ المسندِ إليه المقدّرِ عليها، ولام القسم، ونون التوكيد (لَا رَيْبَ فِيهِ) جملةٌ حاليةٌ، بتأويلِ غيرَ مرتابٍ فيه، أي أقسمُ بالله على أنّ جمعكم ليوم القيامة أمر واقع لا محالةَ، وغيرُ مرتابٍ فيه ارتيابًا بحقّ، فالتكذيبُ به والارتيابُ فيه ارتيابٌ بباطلٍ (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ) مَن للاستفهام الإنكاري، وفيه معنَى النفيِ (حَدِيثًا) كلامًا، وخبرًا منصوبٌ على التمييزِ، فليسَ هناك أحدٌ أصدقُ مِن اللهِ كلامًا، ونفي وجودِ الأحسنِ يرادُ منه نفي المساوي أيضًا، كما تقول: ليسَ في البلدِ أعلمُ من زيد، إذا أردتَ أنه ليسَ لديهِم مثله.

[1]) الحديد:28.

[2]) البخاري:7321.

[3]) أبوداود:5209، والترمذي:2722، وقال: حديث حسن صحيح.

[4]) الطبراني في الكبير:6114، والهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: وفيه هشام بن لاحق قواه النسائي وترك أحمد حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح.

التبويبات الأساسية