المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 9 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (9)

(لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ):

الريب؛ الشكُّ والتحيّرُ، والتردّد في الأمر، فِعلُه رابَ وأَرَابَ، ومِن أهلِ اللغةِ مَن يقولُ: إنّ أرابَ أضعفُ في معنى الشكّ مِن رابَ، وفي الحديث: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)[1]، روي بالوجهين، فعلى هذا تكون الرواية يُريبك بالضم - مِن أرابَ - أبلغُ في التحوّطِ للنفس؛ لأنّها تدل على تركِ ما يُشتَبه في حرمتِه، ولو بشكٍّ ضعيفٍ.

و(لَا) نافية نفيًا عامًّا لجنسِ الريب وأصلِه، فلا مكان للريبِ والتحيّر في القرآن.

ولفظ الريب في القرآن كله معناه الشك، ما عدا قوله تعالى: : (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)[2]، فمعناه صروفُ الدهر ونوائبُه.

وما يُشك فيه منه ما هو واجب الترك؛ كترك ما يشك أنه خمر، ومنه ما هو مندوب الترك؛ كترك معاملة مَن يشك أن أكثر مالِه حرام.

ويجوز الوقوف عند القراءة على (لا ريب)، فيكون خبرُ (لا) محذوفًا، أي: لا ريبَ فيه موجود؛ كما في قولِه تعالى: (قَالُواْ لاَ ضَيْر)[3]، أي: لا ضير علينا، وقولهم: لا بأسَ، أي: لا بأسَ عليك، واستئناف القراءة: (فيهِ هدًى لِلمتّقِين).

ويجوزُ أن يكونَ الوقوفُ عند قوله: (لا ريب فِيهِ)؛ فيكونُ الظرف (فيه) هو خبرُ (لا)، و يكون (هُدًى لِلمُتّقينَ) خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو هُدًى للمتقين، وعلى الأول - وهو الوقوفُ على (لا ريب) - الظرفيةُ في قوله: (فيهِ هُدًى) تُحمل على معنى أن الهدَى مُتمكنٌ في القرآن، تَمَكُّنَ المظروف في الظرف، وليسَ على معنى أنّ فيهِ شيئًا مِن هدى؛ كما في قوله تعالى: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)[4]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّك امرؤٌ فيكَ جاهليةٌ)[5]، فإن (شفاء) نكرة في سياق الإثبات، لا تعم كل الأسقام، و(الناس) العمومُ فيه بدليّ، وليس شموليًّا.

وعلى الوجه الثاني - وهو الوقوفُ على (لَا رَيْبَ فِيهِ) - يكونُ القرآنُ كلّه نفس الهدى، ففيه مبالغةُ اتصافِه بالهداية، حتى إنّه عينُ الهدى.

والنفي في (لا رَيْبَ) إما أن يكون على حقيقته، إخبارًا بنفي الشكّ، فيكون معناه: ليس من الحق أن يرتاب أحدٌ في القرآن، وإن ارتاب فيه المرتابون والمشركون؛ كما أخبر تعالى عنهم: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)[6]، أو أن النفي يراد به النهي، على معنى لا ينبغي أن يكون لأحد فيه ريب؛ لأنه كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ):

الهدى: الدلالة التي من شأنها أن توصلَ إلى الحق، وأثر الهدى والدلالة هو الاهتداءُ، والقرآن دليلُ إرشاد وتبصير، لمن يريد أن يَسترشدَ ويتبصّرَ، والتقوى فعلُها اتقى؛ يرجعُ معناه إلى المنعِ والوقاية، فالمتقي يحمي نفسه، ويمنعها من الوقوع فيما نهى الله تعالى عنه، ومخالفةِ ما أمرَ به، والتقوى جماعُ كل خير، ووصية الله تعالى في الأولين والآخرين.

والقرآن هدايةٌ للناس كافة، وخصّ الله تعالى المتقين بتحصيلِ الهداية، تشريفًا لهم؛ لأنّ انتفاعَهم بالهداية أعظمُ من غيرهم، ولمنزلةِ التقوى ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (مَا استفادَ المؤمنُ بعدَ تقوَى اللهِ تعالى خيرًا مِن زوجةٍ صالحةٍ)[7]، وسَأل عمرُ أُبَيًّا رضي الله عنهما عن التقوى، فقال له: "هل أخذت طريقًا ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: ما عملتَ فيه؟ قال: تَشَمّرْتُ وحَذِرتُ، قال: فذاكَ التقوى"[8]، ونظمَ ذلك ابن المعتز فقال:

             خَــلِّ الـذّنوبَ صغيرَها      وكَـبـيـرَهَـا ذاكَ الـتُّـقَـى

             واصْنَعْ كَمَاشٍ فوقَ أَرْ         ضِ الشوكِ يَحذرُ مَا يَرَى

             لا تَـحْـقِـرَنّ صَـغـيـرَةً       إنّ الـجـبَـالَ مِـن الحَـصَى

وقال ابن مسعود رضي الله عنه لابن أخيه: "يا ابنَ أخي؛ تَرى النَّاسَ ما أكثرَهُم!: قالَ: نعم، قال: لا خيرَ فيهم إلا تائبٌ أو تقي"[9]، وقال الحسن بن أبي الحسن: "لا يزالُ العبدُ بخيرٍ مَا إذا قالَ قالَ لله، وإذا عملَ عملَ للهِ"[10].

 

 

 

[1] [الترمذي:2518،النسائي:5711].

[2] [الطور:30].

[3] [الشعراء:50].

[4] [النحل:69].

[5] [البخاري:30،مسلم:1661].

[6] [البقرة:23].

[7] [ابن ماجه:1857].

[8] [الزهد للبيهقي:969].

[9] [القرطبي:1/161].

[10] [الزهد للإمام أحمد:1/272].

التبويبات الأساسية