المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 204- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (204)

 

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[آل عمران:165-168].

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) همزة الاستفهام في (أَوَلَمَّا) للإنكار والتعجيب من حالهم، و(لَمَّا) ظرف زمان ضُمّن معنى الشرط، مضاف إلى فعل الشرط بعده (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) صفة لـ(مُصِيبَةٌ) أي: ما أصابوكم به في أُحد موصوفٌ بأنكم قد أصبتم منهم ضعفَه في بدر، فقد قُتل مِن المسلمين في أحدٍ سبعون، وقتلوا من الكفار في بدر سبعين، وأَسروا سبعين، والأسرُ الواقعُ على العدوِّ كالقتل، وهو وجه الإصابة بالمثلين، وجملة الصفة (قَدْ أَصَبْتُمْ) معترضة، لتذكيرهم بأنهم عندما أخذُوا بأسباب النصر، ولزمُوا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أصابوا من عدوهم، ولما تركوا الأسباب، وعصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصيبَ منهم (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) جواب (لَمَّا)، و(أَنَّى) اسم استفهام للتعجب، وهي خبر مقدم، و(هَذَا) مبتدأ مؤخر، أي: قلتم مِن أين جاءتنا هذه المصيبة؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) هو بسببكم، وما صنعتْهُ أيديكم، والمعنى: فعلتُم ما فعلتُم من عصيانِ الرسولِ يومَ أُحد، وعجلتُم إلى الغنيمة، وقلتم حين أُصبتُم، ونالَ منكم العدوُّ، متعجبينَ مما حلّ بكم – وقد علمتم أنكم قد أَصَبتم منهم في بدرٍ ضعفَ ما أصابوا منكم في أحد – قلتم: مِن أينَ جاءَنا هذا الابتلاءُ الشديدُ؟! أجبْهُم يا محمد، وقل لهم: ما حلّ بكم هو مِن عند أنفسِكم، أنتم سببه بعصيانِكم وتركِكم أماكنَكم، فعندما تركتُمُ الأخذَ بالأسباب، أوْكَلَكُم الله تعالى لأنفسكم، وحُرمتُم توفيقَه ونصرَه، أو أنتم سببُه بقَبولكم الفداءَ لصناديدِ قريش في بدر؛ لأنّهم لو قُتلوا ما خرجوا لكم في أُحد، وهو مرويٌّ عن علي رضي الله عنه([1]) (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادرٌ على أنْ يصيبَ منكم ويجعلَكم تصيبونَ مِن عدوكم، وهو لا يتعارضُ مع الأخذِ بالأسبابِ، فالانتصارُ مع الأخذِ بالأسبابِ وعدمُه بتركِها كلُّه بقدرةِ الله.

(وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) يوم أحد، (فَبِإِذْنِ اللهِ) بعلمه، هذه زيادة في التذكير بما أصابهم في أُحد، فبيَّن لهم أنه كان على وفقِ السنن التي رضيَها الله لعباده، وأنه كان بِعلمِ الله وإرادته، وقوله (لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي وقوعه للفريقين كان ليظهرَ ما علمَه مِن إيمان المؤمنين وصدقِهم، فيثبتَهم، ويُظهرَ ما علمَه مِن نفاق المنافقين، ويفضحهم (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) قيل للمنافقين شارِكوا مع المسلمين في القتال، أو كونوا حرَّاسًا مرابطين، تدفعونَ العدوّ (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) قائل هذا القول ابنُ أُبَي وجماعته، قال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام والدُ جابر: لا تخذلُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقاتِلوا معه، أو ادفَعوا العدو، وكونُوا حراسًا لجيش المسلمينَ([2])، قالوا مُراوغينَ: لو نعلمُ أن هناك قتالًا يتكافأ فيه جيش المسلمين مع  جيش العدو لقاتلنا معكم، ولكنه قتال غير متكافئٍ، يُلقي فيه المسلمون أنفسهم إلى التهلكة لقلّتهم، فلا نفعلُه، أو معنى قولهم (لو نعلم قتالا) إننا لا نحسن القتال، ولو كنا نحسنه لقاتلنا، يقولون ذلك تهكمًا واستهزاءً (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) حين قالوا: لو نعلم قتالًا لتبعناكم -مستهزئين بالمسلمين- كانوا في ذلك الوقت قريبينَ من الكفر، وبعيدينَ من الإيمان؛ لأنه ليس لهم من الإسلام إلا الرياء والنفاق، وما يتكلمونَ به ويظهرونه على ألسنتهم، أما قلوبُهم فهي على خلاف ذلك، على الكفر وكراهيةِ الإسلام وأهله، والله عليم بما يكتمونه من النفاق والكفر، فلنْ يفلحوا، ولن يمضيَ خداعهم.

(الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) (الَّذِينَ قَالُوا) هم المنافقون المتقدم ذكرهم، قالوا – وهم قاعدون في المدينة لم يُتعبوا أنفسهم ولم يخرجوا للقتال – متحسرين على إخوانهم مِن الخزرج الذين قُتلوا في أُحد: لو أطاعنا هؤلاء في عدم الخروج للقتال، وقعدوا كما قعدنا، ولم يخرجوا؛ ما قُتلوا، وهذا مِن تمام الخذلان والجهل بالأقدار، الذي جرّه عليهم النفاق، لذا جاءهم الرد مفحِمًا، لا يجدون منه مخلصًا (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ها أنتم أنفسكم قد قعدتُم ولم تخرُجوا، فادفعوا عن أنفسِكم الموتَ إذا حضرَ إليكم في بيوتِكم، إن كنتم صادقينَ فيما زعمتُم، مِن أنّ إخوانَكم لو بَقُوا عندكم ما ماتوا، وما قُتلوا، فلا أنتم ولا أحدٌ منهم قادرٌ على نفع نفسِه إذا جاءَ أجلُه، في أي موضعٍ كانَ، الموتُ نازلٌ به لا محالةَ، فمَن لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيره، فالقُعودُ عن الجهاد لن يزيدَ في أجله ويؤجلَّه، والخروجُ إليه لن يعجلَه، فقد يكون الخروج سببًا للموتِ، وقد يَستبقِي المرءُ بالخروجِ الحياةَ، كما قال القائل:

تأخرتُ أَستبْقي الحياةَ فلم أَجدْ      لِنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدَّما

 

[1]) صحيح موارد الظمآن إلىٰ زوائد ابن حبان:1694.

[2]) تاريخ الطبري: 2/59.

التبويبات الأساسية