بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (218)
(وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)[النساء:6-7].
(وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا) معطوفة على جملة: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى) لا على جملة: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ) لفساد المعنى؛ لأنّ الدفعَ إليهم بعد البلوغ، والنهي عن أكلِ مالِهم قبل البلوغ.
(إِسْرَافًا) منصوب على الحال؛ أي لا تأكلوها متجاوزين الحدَّ، مسرفينَ في الأكل، وليس هو قيدًا في النهي عن أكلِ أموالهم، فأكل أموالهم حرامٌ على كل وجهٍ، بتجاوزٍ للحدّ وإسرافٍ أو بغير تجاوز، ولكن القيد أفاد أنهم كانوا يأكلونها على وجهٍ بشعٍ، مصحوبٍ بالإسراف، فهوَ لبيانِ الواقعِ لا مفهومَ له (وَبِدَارًا) البِدار مفاعلةٌ من بادر، بمعنى المسارعة في أكلها، بتكلفِ بذلِ جهدٍ في الاستحواذ عليها (أَنْ يَّكْبَرُواْ) من (كَبِرَ) كـ(عَلِمَ) بمعنى الزيادة في السن، بخلاف (كَبُر) بالضم كـ(شَرُفَ) فهي بمعنى الزيادة في القدر، وإذا تعدَّت الأخيرة بـ(على) كانت بمعنى المشقة، كما في قوله تعالى: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)([1])، ومصدر (أَنْ يَّكْبَرُواْ) مفعول للبدار: لا تأكلوها مبادرين كِبَرهم، والخطاب في: (وَلَا تَأْكُلُوهَا) لأولياء المحاجير، حذرهم أن يتسلطوا على أموال المحاجير، ويأكلوها بذريعة النفقة عليهم، فينفقونها بسخاءٍ وسرفٍ على أنفسهم، وعلى محاجيرهم، متجاوزين الحدَّ، مسارعين في أكلها؛ لِيتمّ استحواذهم عليها، معاجلين كِبَرهم، مسابقين وقت ردّها إليهم، فكأنهم بالتوسع في إنفاقها في سباقٍ مع اليتيم؛ للإتيانِ على ماله قبلَ أن يدركَه اليتيمُ ببلوغِ الرشد، حتى إذا ما جاء هذا الوقت، لا يجد المحاجير أموالًا تسلم إليهم.
ثم وضع لهم القرآن قاعدةً في الإنفاق على أنفسهم من مالِ المحجور، حتى لا يقعوا في المحذور، تحفظ حقهم وحقَّ اليتيم، فقال: (وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) فمَن كان مِن الأولياء غنيًّا، فليعفّ وليكفّ، ولا يأكل شيئًا من مال محجوره، فذلك خيرٌ له وأسلم، وأكملُ لأجره، ومَن كان منهم فقيرًا فلا حرجَ عليه أن يأكل مِن مال المحجور بالمعروفِ، والمعروفُ قدر أجرته لو كان يأخذ أجرًا، فالمطلوب منه أن يأكلَ بالرفِق والقصد، لا بالتوسع في الإنفاق والادخار، وفيه دليلٌ على أن الوليَّ له حق في مالِ الصغير، إنْ كان يقوم له بعملٍ زائد على مجردِ الإشرافِ والملاحظة، ولذلك جَوّز المالكية للوصيِّ إذا كان يقوم بعملٍ لليتيم، غير مجردِ الرعاية، أن يأخذَ أجرة مثله في العملِ الذي يقومُ به؛ حملًا للأمر بالاستعفاف على الندبِ لا الوجوب، قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله: هل يأكلُ من مال محجوره؟ قال: (بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ)([2]) وقال عمر رضي الله عنه: (إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، إِنِ احْتَجْتُ أَخَذَتُ مِنْهُ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ رَدَدْتُهُ، وَإِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ)([3])، والسين والتاء في قوله: (فَلْيَسْتَعْفِفْ) للطلب، والمبالغة في الاستعفاف؛ ليطلبَ الوليُّ ذلك من نفسهِ، وليحرصَ عليه (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) عند إيناسِ الرشد، ودفع المال إليهم، أُمروا أن يشهدوا، وأن يوثّقوا ما دفعوه إليهم، والأمرُ بالإشهادِ عند الدفع إليهم يدلُّ على أن مَن فرّط يكونُ ضامنًا إذا اتّهم، ولا يصدق عند المنازعة إلا بالبينة (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا) فمَن فرط فيما أمر به، فأكلَ مالَ المحجور، أو سلمَه قبل إيناس الرشد، أو دفعَه دون إشهاد، وتساهلَ على وجهٍ يدخلُ الريبة، فالله رقيبٌ عليه، يتولى حسابَه وعقابَه، وكفى به حسيبًا.
(لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) تمهيدٌ وتوطئة للشروع في بيان أحكام المواريث، وانتقالٌ عمّا كان عليه أهلُ الجاهلية، مِن حرمانِ النساء واليتامى مِن الميراث، فبيَّن أن للقرابة من الرجال والنساء حقوقًا ونصيبًا فيما تركه الوالدان والأقربون، وذلك يعمّ القليلَ والكثيرَ من مال الميت، فقوله: (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بيان لقوله: (مِمَّا تَرَكَ) وقوله: (مَفْرُوضًا) حال، أو مصدر مؤكد لقوله: (نّصِيبًا) و(مَفْرُوضًا) من الفرض، بمعنى التقدير، أي قدّره الله وحدده وحكم به، فلا أحد يملك حرمان أحدٍ منه، فهو يدخل في ملكِ الوارث – ذكرًا أو أنثى رشيدًا أو سفيهًا صغيرًا أو كبيرًا – جبرًا عليه، ولا يحتاج إلى قَبول وإذنٍ.
جاء في كتب التفاسير أن أوس بن مالك خلّف زوجته أم كُجّة وثلاث بنات، فزوَى ابنَا عمِّه سُوَيْدٌ وعُرْفُطَةُ، أو قَتادَةُ وعُرْفُجَةُ، ميراثَه عنهنَّ، على سنّةِ الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثونَ النساءَ والأطفال، ويقولون: إنما يرثُ مَن يحارِب، ويذبُّ عن الحوزة، فجاءت أم كُجّةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ – قريب مِن قباء – فشكتْ إليه، فقال: (ارجعي حتى أنظرَ ما يحدثُ اللهُ، فنزلتْ، فبعثَ إليهما: لا تُفرقَا من مالِ أوس شيئًا، فإن الله قد جعل لهن نصيبًا، ولم يبينْ حتى نزلتْ: (يُوصِيكُمُ اللهُ) فأعطَى أم كُجّة الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم)([4]).
[1]) الشورى:13.
[2]) السنن الكبرى للبيهقي:12672.
[3]) السنن الكبرى للبيهقي:788.
[4]) القصة مذكورة في كتب التفاسير لا كتب الحديث، انظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على القصة: جامع البيان في تأويل القرآن ـ محمد بن جرير الطبري ـ ت: أحمد محمد شاكر ـ ط: 1 ـ 1420 هـ ـ 2000م ـ مؤسسة الرسالة.