المنتخب من التفسير -الحلقة 290 - سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (290)

[سورة المائدة: 44-45]

فَلَا تَخشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخشَونِ وَلَا تَشتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلاً وَمَن لَّم يَحكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلكَٰفِرُونَ (44)

 

(فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) من اختاره الله ليكون حافظًا لكتابه من التغيير، ومبينًا له على وجهه، سيتعرضُ للأذى ممَّن يتبعون أهواءَهم، وإن انتسبوا للإسلام، فضلا عن أعدائه، ولذا تفرعَ على الأمر بحفظ كتاب الله، أمرُهم بألَّا يخافوا إلّا اللهَ وحدَه، ولا يخافوا فيما يبينونه للناس غيره، رضيَ مَن رضِي، وكرهَ مَن كرِه (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) نُهُوا أن يستبدِلوا الحقَّ الذي جاءت به آياتُ الله، فيكتموها أو يحرفوها، ويأخذوا عليها من السلاطين والحكام ثمنًا قليلًا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أهل العلم في تفسيرِ هذه الآية على قولين:

الأول: أنّ آية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) المعنيّ بها همُ اليهود، الذينَ كتموا حكمَ الله في التوراة، وفي هذا حديث البراء عند مسلم، يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن اليهود أتوا بالزاني المحصن، وزعموا أن حكمه في التوراة الجلد والتحميم، فأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم برجمه، وقال: اللهمَّ إني أحييتُ حكمَك إذ أماتُوه، فأنزل الله: (وَمَن لَّم يَحكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلكَٰفِرُونَ) (فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ) (فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلفَٰسِقُونَ)([1]).

والثاني: أنّها في المسلمينَ، مع الاستحلالِ والجحودِ، وأن الحكم بغير ما أنزل الله دونَ استحلالٍ هو كفرٌ دونَ كفرٍ، وبحمل الآية على المسلمينَ مع الاستحلالِ قال عامةُ الفقهاء؛ من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وعامةُ جمهورِ أهل العلمِ من السلفِ والخلفِ؛ فحملوها على من اعتقدَ تفضيلَ ما يحكُمُ به على شرعِ اللهِ، أو كانَ ذلك مع جحودٍ أو استحلالٍ أو اسْتِخْفَافٍ، أَوْ تَخْطِئَةٍ لِحُكمِ اللهِ، أو كان حكمُه بغير ما أنزلَ الله على أنّه حكمُ الله.

 

أمّا مَن فعل ذلك غفلةً أو جهلًا، أو اتباعًا لهوًى، أو عجزًا، دونَ استحلالٍ، ولا استخفافٍ بحكم الله؛ فهو فاسقٌ، مرتكبٌ كبيرةً مِن كبائرِ الذنوب، واشتراطُ الاستحلال على النحوِ المذكورِ في كفرِ مَن حكمَ بغير ما أنزلَ الله، هو قولُ ابنِ عباس رضي الله عنهما وأصحابه، وابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وأصحابِه؛ ولا مخالفَ لهم من الصحابةِ في تفسيرِ الآية، فكان في حكمِ الإجماعِ مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم همْ أعلمُ الناسِ بكتابِ الله ومعانِيه؛ لصحبتِهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومشاهدتِهم الوحيَ، وأعلمُ الناسِ بحقائقِ الإسلامِ ولوازمِه ونواقضِهِ.

 

وَكَتَبنَا  عَلَيهِم فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفسَ بِٱلنَّفسِ وَٱلعَين بالعين وَٱلۡأَنفَ بِٱلأَنفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلجُرُوحَ قِصَاصٞ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُ وَمَن لَّم يَحكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (45)

 

القصاصُ في النفس كان معروفًا في شريعة اليهود، لا يمكنهم أن يجحدوهُ، وهو أيضًا من شرعنا؛ لأنّ القرآنَ ذكره هنا، وأقرَّه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)([2])، وعمِل به النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمة، وقد أخبرَنا الله في هذه الآية بما كتبهُ على بني إسرائيلَ في القصاص؛ لإفادة أن ذلك شرع لنا كما تقدَّم، ولإعلامِ اليهود بأن ما كانوا يفعلونه من التكايلِ في الدماء بعدم المماثلة، والحكم فيها بالتقدير بناء على المنزلةِ والشرف، مخالفٌ لشرعهم في التوراة، فكانوا لا يقتصون للضعيف من القوي، وكان يهود بني النضير أقوى من قريظة، فكانوا يأخذونَ بالنضيري إذا قُتل اثنين من قريظة، وبديته ديتين، فكانوا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ)([3])، فقوله (وَكَتَبْنَا) أوجبْنا وفرضْنا (أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ) والضمير في (عَلَيْهِمْ) يعود على بني إسرائيل، فضمير (فِيهَا) يعود إلى التوراة، أي كتبنا على بني إسرائيل في التوراة أنّ النفسَ مأخوذة بالنفسِ([4])، وقوله (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) ومَا بعدَها معطوفٌ على (النَّفس بالنَّفسِ) أي أن النفس مقتولةٌ بالنفسِ، والعينَ مفقوءةٌ بالعينِ، والأنفَ مجدوعةٌ بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، والجروح قصاص، فيكون القصاص في الأطراف أيضًا مما كتب عليهم في التوراة، وقوله (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) على حذف مضاف، والجروح ذاتُ قصاص ومماثلة في العقوبة، بأن يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وقدّر المضاف (ذات) لأنَّ قصاص خبر أنّ المقدرة، وهو مصدرٌ لا يُخبر به، فالجروح في الجملة فيها القصاصُ كالقصاصِ الأولِ في النفسِ والأطرافِ، واكتفي فيها بالعموم دون التفصيل؛ لأن بعض أفرادِها تتأتى فيه المماثلة عند العقوبة؛ كقطع أصبعٍ أو يدٍ أو قدمٍ أو موضحةٍ، وبعضها تتعذر؛ كالرضّ والجائفةِ، وكجراحِ الرأسِ التي لا يمكن التحكمُ فيها بالمماثلة، كالمأمومةِ ونحوِها، فإن الواجبَ في عمدها الديةُ، وما لا ديةَ فيه ففيه الأرش؛ لأن القصاصَ فيها قد يؤدِّي إلى إتلاف النفس (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) التصدق: العفوُ، أي فمَن تصدق بحقه وتركهُ مجانًا ولم يقتصَّ، أو مقابلَ دية، فالتصدقُ كفارةٌ له، فضمير بهِ يعودُ على الحقِّ المفهومِ من القصاص، الذي أعطي للمجني عليه، وجملة (فَهوَ كَفَّارَةٌ) خبر المبتدأ (فَمَن تَصَدَّقَ) أي فمَن عفَا فالعفوُ والتركُ يكونُ كفارة لذنوبِ المجني عليه صاحب الحق، إذا عفَا، أو لذنوبِ وارثهِ، الذي آل إليه حق القصاصِ، إذا عفا أو صالحَ، أو كفارة لهما معًا، فالله واسعُ الفضل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الظالمُ مَن يضع الأمر في غير موضعِه، ومن حكم بغير ما أنزلَ الله فقد وضعَ الأمر في غير موضعِهِ، فإن كان مستحلًّا فظلمُه ظلمُ كفر، وإلا فظلمُهُ ظلم معصيةٍ وفسوق، والكلامُ فيه كالكلام فيما تقدم في قولهِ (وَمَن لَّم يَحكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلكَٰفِرُونَ).

[1]) صحيح مسلم:1700.

[2]) البقرة: 178.

[3]) البخاري: 3475، مسلم: 1688.

[4]) فالباءُ في قوله (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يصحُّ أن تكون للمقابلة، وأن النفسَ الأولى هي القاتلة، والثانيةَ هي المقتولة، والجار والمجرور (بالنفسِ) متعلقٌ بخبر أنّ، تقديره: أن النفس القاتلة مقتولة بالنفس المجنيِّ عليها، ويصحُّ أن تكون الباء في (بالنفسِ) للعوضِ، أي أن النفسَ المجنيَّ عليها معوضٌ عنها بالنفسِ الجانيةِ.

التبويبات الأساسية