المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 32 - تابع سورة البقرة

 بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (32).

 

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

 

(فَأَزَلَّهُمَا): من الزلل، والزللُ والزّلقُ؛ هو السقوطُ لعدم ثباتِ القدمِ، في الطين والدحض ونحوه، والمراد: إغواءُ الشيطانِ لآدم وحواء، وإغراؤهما على الأكل من الشجرةِ، فأسقطهما بذلك في المعصية، كما يسقطُ من زَلّتْ قدمُه، وضميرُ (عنها) عائدٌ إلى الشجرة، أي: فأغواهُما الشيطان إغواءً ناشئًا عن الأكلِ مِن الشجرة، فكان سببًا في خروجهما مِن الجنة، ويجوزُ عود الضميرِ إلى الجنة، فيكون المعنى: أوقعَهما في الزللِ، فأخرجهُما من الجنة.  

(مِمَّا كَانَا فِيهِ): فأخرجهُما الشيطان مما كانا فيه مِن عزِّ الطاعة، والمنزلة الرفيعة، والظفرِ بالجنة، وسعادتِها ونعيمها؛ إلى ذلِّ المعصية، الذي استحقّا معه الخروجَ مِن الجنة، وشقاء الدنيا وعنائها.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا): الهبوطُ؛ النزولُ من علو إلى سَفل، وجاء الخطابُ بالجمع (اهبطوا) وهما اثنان، آدم وحواء؛ لأن الشيطان أخرجَ من الجنة قبل ذلك، عندما أبَى أن يسجدَ واستكبر، وذلك إمّا من باب التعبير عن المثنّى بالجمع، كما في قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)[1]، أي: مالت عن الحق والصواب، فالقلوبُ جمعٌ، وهما اثنتان؛ عائشة وحفصة، فجاء الجمع (اهبِطُوا) للاثنين؛ لتوالي خطاب التثنيةِ قبله في الآية: (فأزلهما)، (فأخرجهما)؛ تنويعًا للخطاب، وإمّا لدخول إبليس في الخطاب، وإن كانَ قد أُهبطَ من الجنة قبلَ ذلك، كما قال تعالى في سورة الأعراف: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[2]، إلى أن قال: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا)[3]، فيكون الأمر الأولُ لإبليس بالخروج خطابَ إخراجٍ، والأمر الثاني هنا خطابَ حرمانٍ، وهذا أقربُ، يدلّ عليه قوله بعده:

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ): أي: اهبطوا إلى الدنيا، والحالُ أنّ العداوةَ بين الشيطان وذريتِه، وآدمَ وذريتهِ؛ متقررةٌ ومتأصلةٌ، و(عَدُوّ) لفظ يصلحُ للواحد وللجمع، مثل بعض وكل، فإفرادها باعتبار لفظها، وجمعها باعتبار مدلولها، لذا صح الإخبار في الآية بها عن الجمع (بعضُكُم لِبعْضٍ)، فقال: عدوٌّ، ولم يقلْ أعدَاء، وكما في قوله تعالى: (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ)[4]، وقد جاء في آية أخرى الإخبار بها عن المفرد، قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ)[5]، ومثلها (كلّ)، قال الله تعالى: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا)[6] على اللفظ، وهو الإفراد، وقال تعالى: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)[7] على المعنى، وهو الجمع.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ): لكم في الأرضِ مكانُ استقرار وعيش، تنعمون فيه، وتستمتعون بالحياة ولذائذِها؛ من المأكلِ، والملبسِ، والمؤانسةِ، والمعاشرةِ، قرنًا بعد قرنٍ، وجيلًا بعد جيل، إلى حينٍ وأجلٍ مسمّى، ينتهي لآحاد الناس بالموت وانقضاءِ آجالهم، ولمجموعِهم بالقيامة وانقضاءِ الدنيا.

وأصل (الحِين) يطلقُ على المدةِ الطويلةِ، وهيَ أمرٌ نسبيٌّ، في كلّ شيءٍ بحسبِهِ، يتحدّدُ قدرُه بالسياقِ الذي وردَ فيه، وأطولُ ما قيلَ فيه: العمرُ، أو الدهرُ، وأقصرُه: غدوةٌ، أو عشيةٌ، قال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)[8].

قال بعض الفقهاء: أقلّه في الأيمانِ والنذورِ السنةُ، فمنْ حلفَ ألّا يفعلَ شيئًا إلى حينٍ؛ لزمَهُ سنةٌ، قال الله تعالى : (تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا)[9]، وقيل: ستة أشهر؛ لأنّ مِن النخلِ ما يثمرُ كلّ ستةِ أشهرٍ.  

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)؛ التلَقِّي مُضعّفٌ مِن لَقِيَ، دالٌّ على التكلُّفِ والعنايةِ، ويستعملُ التلقي في كلّ استقبالٍ مصحوبٍ بالإكرامِ والمسرّةِ؛ فيدُلُّ على أنّ الكلماتِ المتلَقّاة هي كلماتُ عفوٍ ومغفرةٍ وإحسانٍ، وليست كلماتِ تأنيبٍ وعقابٍ، بخلافِ الفعل لَقِيَ، فإنه يستعمل للمكروهِ والمرغوبِ، فيُقال: تَلَقَّى الضيوفَ والوفودَ، ولَقِي العدوَّ، قال اللهُ عن أصحاب الجنة: (وتتلَقّاهُم الملائكةُ)[10]، وتلقِّي الكلماتِ إلهامٌ ووحيٌ مِن الله تعالى، وصيغةُ التفعلِ فيهِ، تقتضِي أنّ التلقِّي كانَ في أعلَى درجاتِه مِن الرجاء والانتظار والتلهُّف، وأنّه وقعَ عقبَ الهبوطِ على الفورِ، دونَ تراخٍ؛ لعطفِهِ على (قلْنَا اهْبِطُوا) بالفاءِ المفيدة للتعقيب، ففيهِ إشارةٌ إلى سرعةِ إلهامِه لذلكَ، ويُستفادُ منهُ المبادرةُ إلى التوبةِ عندَ وقوعِ المعصية، وقوله (مِن رَبِّهِ) تقديمُ المجرورِ فيهِ للتشريفِ، والكلماتُ جمعٌ سالمٌ لكلمةٍ، يُطلق على القليلِ والكثير، والكلماتُ التي تلقاها مِن ربّه باتفاقِ أهل العلمِ؛ هي من حيث الجملة - كما يقتضيه المقام - الاستغفارُ والندمُ، فالاستغفارُ ملتجأُ كلّ مذنبٍ، وأمان كلِّ خائفٍ، وإنما اختلفوا في اللفظِ الذي قالَه من هذه الكلماتِ، والأكثرُ على أنّه ما ورد في القرآن: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[11]، وتنكيرُ كلماتٍ للتشريفِ والتعظيمِ.

(فَتَابَ عَلَيْهِ): تابَ في حقِّ اللهِ يتعدَّى بعلى؛ لتضمُّنِهِ معنَى رَضِي، فالتوبةُ مِن اللهِ على العبد الرِّضَى عنهُ، وقَبُولُها منهُ، ويُوصفُ اللهِ تعالى بالتَّوَّابِ مبالغةً في قَبول توبةِ عبادِه، قال تعالى: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وتابَ في حقِّ العبدِ: رجعَ؛ لذا يتعدَّى باللامِ مثل رَجَعَ، فالتوبةُ مِن العبدِ رجوعٌ للطاعةِ بعدَ الذنبِ، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[12]، الراجعينَ له بالندم، والتوبةُ تتطلبُ ثلاثةَ أركانٍ؛ الاعتراف بالذنبِ، والندم على ارتكابهِ، والإقلاع عنه، و(ثابَ) المثلثة في المعنى مثل (تَابَ) المثنّاة.

ولعلَّ نبوَّةَ آدم كَانَتْ بَعْدَ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ، فلا تُنافِي معصيتُه في الجنة عصمةَ الأنبياءِ؛ لأنّ العصمةَ الواجبةَ لهم بعدَ النبوةِ، لا قبلَها، والأنبياءُ معصومونَ مِن الكبائرِ اتفاقًا، أما الصغائرُ فالجمهورُ على وقوعِها منهم، ومعصيةُ آدمَ الأقربُ أنّها صغيرةٌ، بدليلِ أنّ لومَها كانَ لومَ تأديبٍ وحرمانٍ، لا لومَ تعذيبٍ وعقابٍ.

والمغفرةُ وقَبولُ التوبةِ، هو ممّا أختصَّ به اللهُ وحدَه، وانفردَ به دونَ سواهُ، وليسَ لأحدٍ أن يُقيدَ توبةَ أحدٍ بحضورِ شيخٍ أو إذنٍ منهُ، فقد كفرتِ اليهودُ والنصارَى بذلك، حينَ اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا مِن دونِ الله، فجعلُوا على مَن أذنبَ أن يأتيَ الحَبرَ أو الراهبَ؛ فيعطيهِ شيئًا، ويحطّ عنهُ ذنوبه، (افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)[13].

وقال: (فَتَابَ عَلَيْهِ)، ولم يقلْ عليهِما، فلم تُذكر توبةُ زوجِهِ معه في هذا الموضعِ، مع أنّها شريكةٌ له في الأكلِ مِن الشجرةِ، وقد ذُكرت توبتُها في موضعٍ آخرَ: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)[14]، وعدمُ ذكرِها هنا لأنّها تبعٌ له، وما يخصُّه يخصُّها، فاكتُفيَ به عنها، كما قال عن موسى عليه السلام وفتاه: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)[15]، فكان معه فتاه وخاطبه الخضر وحدَهُ؛ لأنّ فتاهُ تبعٌ له، وقد يكونُ مثل هذا الاكتفاءِ للاختصارِ في الكلام، قال الله تعالَى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)[16]، فأُعيدَ الضميرُ مفردًا اختصارًا.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ): فيه إشارةٌ إلى أنّ توبةَ الله ليستْ خاصةً بآدمَ، بل لكلِّ مَن تابَ وأنابَ، وأنّها توبةٌ واسعةٌ بالغةٌ عَميمة، كثيرةٌ وفيرةٌ، لا تنقضِي، لإتيانها جملةً اسميةً بصيغةِ المبالَغةِ، وذكرُ الرحمةِ بعدَها ذكرٌ للجزاءِ؛ ليفيدَ أنّ الأمرَ لا يقفُ عندَ قَبولِ التوبةِ، بل مصحوبٌ بالمكافأةِ، التي هيَ مقتَضَى الرحمةِ.  

 

[1] [التحريم:4].

[2] [الأعراف:13].

[3] [الأعراف:18].

[4] [الكهف:50].

[5] [فاطر:6].

[6] [مريم:95].

[7] [النمل:87].

[8] [الروم:17].

[9] [إبراهيم:25].

[10] [الأنبياء:103].

[11] [الأعراف:23].

[12] [البقرة:222].

[13] [الأنعام:140].

[14] [الأعراف:23].

[15] [الكهف:72].

[16] [التوبة:62].

التبويبات الأساسية