المنتخب من التفسير -الحلقة 283 - سورة النساء

 بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (283)

[سورة المائدة:18-23].

 

 

وَقَالَتِ ٱليَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحنُ أَبنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرۡضِ وَمَا بَينَهُمَا وَإِلَيهِ ٱلمَصِيرُ (18)

 

هذه الآيةُ تحكي نوعًا آخر من كفر اليهود والنصارى، معطوفًا على قوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فمِن كفر اليهود قولهم في التوراة التي حرفوها (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وكذلك قالت (النَّصَارَى) وإنجيلهم طافحٌ بهذه الدعوى الكاذبة (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ردَّ اللهُ على الفريقين: لو كُنتُم أبناءَ الله وأحباءَه حقًّا، فلِمَ يعذبُكم بذنوبكم، لقد عُذِّبتم في الدنيا بالمسخِ والقتل والأسْر، وفي الآخرة اعترفتُم بأنّ النارَ ستمسُّكم، ولكن قلتم أيامًا قليلةً، فهل يعذبُ اللهُ مَن يحبُّهم، فأنتم لستُم مِن أبناءِ الله، ولا ممن يحبّهم، بل أنتمْ بشرٌ كسائرِ البشرِ الذينَ خلقَهم الله (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) فيغفرُ لمَن آمنَ وتابَ وأَنابَ، ويعذبُ مَن أشركَ وقال الكذبَ والإفكَ على الله وعصاهُ، وليسَ لأحدٍ مع اللهِ قرابةٌ ولا نَسب؛ لأنَّ النسبَ والقرابةَ دليلُ الافتقارِ والحاجة، والله منزهٌ غنيٌّ عن العالمين؛ لأنَّ الله له (مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) كلّه، فـ(بَلْ) في قوله (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) للإضرابِ، إبطالًا لقولهم السابق وإضرابٌ عليه، بأنهم كأمثالهم ممن خلقَ الله مِن البشر (وَإليه الْمَصِيرُ) أي مصيرُ جميع الخلق في القيامة ورجوعُهم إليه.

 

يَٰٓأَهلَ ٱلكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَترَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (19)

 

الآية تنادي أهلَ الكتاب الذين أعرضوا عن الإسلام؛ أنْ أَقبِلوا، فقد جاءَكم رسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، يُبين لكم الدينَ وشريعة الإسلام، جاءكم على فترةٍ من الرسل، فبعد انقطاع الرسلِ مِن رفع عيسى عليه السلام إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فترةٌ امتدَّت إلى ستةِ قرونٍ تقريبًا، انقطع فيها أو قلَّ فيها – على خلاف المعتاد – الإرسال إلى بني إسرائيل، فإرسالُ محمد صلى الله عليه وسلم كان بعد وقت طويلٍ من انقطاع الرسلِ، فقد كانت الرسلُ تترى على بني إسرائيل، من موسى عليه السلام إلى مجيءِ عيسى عليه السلام، ثم جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم لئلّا تعتذروا، وتقولوا: (مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ)([1])، أو تقولوا: (رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ)([2])، ها هو العذرُ بهذا القولِ قد قطع عنكم، ببعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليكم وإلى العالمين، بشيرًا ونذيرًا، فما عذركم الآن، احذرُوا، فلا عذرَ ولا مهربَ لكم، فإنّ (الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إذا أخذَكم لم يُفلتكم، فـ(رَسُولُنَا) في الآية هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومفعول (يُبَيِّنُ) محذوف، أي: يبين لكم الدينَ والشرائعَ، ومِن في (مِنَ الرُّسُلِ) ابتدائية، والرسل هم رسلُ بني إسرائيل من بعدِ موسى عليه السلام، والظرفُ (مِنَ الرُّسُلِ) متعلقٌ بجاءكم، جاءكم وبُعث إليكم على فترة، بعد انقطاعٍ من الرسل، وقوله (أَنْ تَقُولُوا) إمّا مفعول لأجله، أي: جاءكم رسولنا كراهيةَ أنْ تقولوا، أو بتقدير لام التعليل: لئلَّا تقولوا، والفاء في قوله (فَقَدْ جَاءَكُمْ) للفصيحة، وهي تفصحُ عن مقدرٍ في الكلام محذوف، أي: لا تعتذروا بقولكم مَا جاءَنا، فقد جاءَكم بشير ونذير.

 

وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعمَةَ ٱللَّهِ عَلَيكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلعَٰلَمِينَ (20)

 

خطابٌ من موسى عليه السلام لبني إسرائيل، يأمرهم أن يراجعوا أنفسهم، ويذكروا نعم الله الكثيرةَ عليهم، ومن هذه النعم أنه أكثر فيهم من الأنبياء، وكثرةُ الأنبياء بركةٌ على أقوامهم، والناس معهم أقربُ إلى الهداية وصلاحِ الحال، ولكنَّ بني اسرائيل أصيبوا بداءِ الغدرِ والمراوغةِ والاحتيالِ مع أنبيائهم، فكفّروا الأنبياءَ وقتلوهم، وقتلوا العلماءَ الذين يأمرونَ بالقسطِ من الناس، وتخلّوا عن الشرائع، ومن هذه النعم أنه جعلهم ملوكًا، فمكَّن لهم تمكينينِ؛ مكنَ لهم في الدينِ بكثرة الأنبياء، ومكنَ لهم في الدنيا بكثرةِ الملوك، وقال (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) بإسنادِ الملك إليهم جميعًا، ولم يقل: فيكم ملوكًا، كما في الأنبياء؛ لأنَّ النبوة منحةٌ إلهية، يصطفي بها الله من اختارَه لرسالته، بخلافِ الملك، فإنّ مظهره التنعم والترفه والسلطان، فقد يتشبَّه فيه الناسُ بعضُهم ببعض، فيشابهونَ الملوكَ، ومن نعمِه عليهم أن أعطاهُم معجزات عمَّتهم وشمِلتهم، لم يعطِها في نوعها وشمولها أحدًا غيرَهم، فأطعمَهم المنَّ والسلوى أربعينَ سنة، وكان يظلّهم فيها الغمام حتى سئِموا النعيم، ومنها أنه فلقَ لهم البحرَ، وجعل لهم في اليمِِّ طريقًا يبسًا.

 

يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلأَرۡضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ (21)

 

(الْمُقَدَّسَةَ) من التقديس، وهو التطهير والبركة، والأرض المقدسة هي فلسطين، أو بيت المقدس، طهرَها اللهُ لأنها مهبطُ الوحي ومسكنُ الأنبياء، فقد كتبَ وقدرَ اللهُ لكم دخولها، فلا تتولوا مدبرينَ منهزمينَ إلى الوراء، وتعصُوا الله، وتمتنعُوا من دخولها الذي أُمرتم به، فتنقلبوا خاسرينَ أذلاءَ، بعد أنْ كُنتُم ملوكًا غالبين، فترتدُّوا: ترجعُوا، والأدبار جمعُ دُبر، وهو الوراءُ وجهة الظهر، والمجرور – على أدباركم – في موضعِ الحال.

 

قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخرُجُواْ مِنهَا فَإِن يَخرُجُواْ مِنهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ (22)

 

جبارينَ جمع جبار، وهو من يُكرِه الناسَ ويقهرُهم على ما يريدُ، على خلافِ العدلِ والمعروف، كان جوابُ بني إسرائيل – لما طلب منهم دخول الأرض المقدسةِ – جوابَ من قال: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ)([3])، حيث أجابوا رسولهم بعصيانهِ، والتمادي على ما هم عليهِ مِن الخوف من عدوهم، وعلَّلوا إعراضَهم عن دخول القرية بأنّ فيها قومًا جبابرةً أقوياء.

وقد تقدم أن موسى عليه السلام عندما أمره ربه بدخول أرض الكنعانيينَ في أَريحا، اختارَ اثني عشرَ رجلًا، وأخذ عليهم العهدَ أن يستطلعُوا أخبار القرية التي أمروا بدخولها، ولا يحدِّثوا بما يرونَ عليه أهلَها من القوةِ والتحصين، حتى لا تضعفَ همةُ قومهم، فوجدوا أن قومَها جبابرةٌ أقوياء، ولم يُوَف من الاثني عشر الذين دخلوا القرية بما عاهدُوا إلا اثنين، وأخبرَ الذين نكثوا قومَهم؛ بأنهم وجدوا أرضًا خصبةً، خيراتُها كثيرة، وعيشتُها رغيدة، لكنّ قومَها شدادٌ جبابرةٌ، أقوياء متحصنون، فجبُنَ القوم، وقالوا لموسي عليه السلام (إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخرُجُواْ مِنهَا) فعلَّقوا دخولهم على محالٍ عادةً، وهو خروجُ الجبابرة منها باختيارهم، ثم أكدُوه بقولهم (فَإِن يَخرُجُواْ مِنهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ) فهم يريدون أن يدخلوها دخولَ ضيافةٍ، لا دخولَ فتح وجهاد، فغضبَ الله عليهم وعاقبهم، إلّا الذين وَفوا، وكانت العقوبةُ حرمانَ كلّ مَن كان قادرًا منهم على الجهاد مِن دخولِ الأرض المقدسة، فحُرموا خيراتها، وبقوا تائهينَ في صحراء قَفرٍ أربعينَ سنة، وهذا حالُ المتخاذلين، الناكصينَ على الأعقابِ في كل زمان، يُحرَمونَ في الدنيا العيشَ الكريم، وفي العاقبةِ الأجرَ العظيم، وقد تقدمت تحايلاتُهم وخداعُهم، عندما أُمروا بدخولِ الأرض المقدسة، في قوله تعالى في البقرة: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا)([4])، (فالجبَّارينَ) مبالغةٌ من الجبرِ، وفعله جبر، والجبارُ مَن فِعله القهر والتعالي، ومنه الجبّارَة للنخلةِ لعلوِّها، وأهلُ بلدنا يطلقونَ الجبَّارة على الفسيلةِ، باعتبار ما تؤولُ إليه، تفاؤُلًا لتصيرَ نخلة.

 

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيهِمُ ٱلبَابَ فَإِذَا دَخَلتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (23)

 

الرجلان في قوله (قَالَ رَجُلَانِ) من النقباء، وهما اللذان وفَيَا بما عاهدَا عليه، ألّا يخبرَا بما رأَيَا من أهلِ الأرض المقدسة، التي دخلاها مع باقي النقباء، وأسماؤُهما كما في كتبِ أهل الكتاب: يُوشَع وكَالب، ومِن في قوله (مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) يحتملُ أن تكون اتصاليةً، بمعنى منتسبينَ إليهم، كما في قول القائل: لستُ من القومِ ولا القومُ مني، ويكونُ (الَّذِينَ يَخَافُونَ) ومنهم الرجلانِ هم بنو إسرائيل، الذين وُصفوا بالخوفَِ والجبنِ مِن عدوهم، وخالفهم هذانِ الرجلان، اللَّذان (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالشجاعة، وثبتهما لقتالِ الكافرين، ويحتملُ أن تكون مِن في قوله (مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) بيانية، أي: قالَ رجُلَان وهمَا اللذانِ كانَا يخافانِ الله، فيكون تعريضًا بعدم خوفِ الآخرين من الله، وخوفُهما من الله كان نعمةً أنعمَها الله عليهما، فربطَ على قُلُوبهمَا في قتالِ الأعداء، وصدقَا في ما عاهدَا عليه، قال الرجلان الناصحانِ: ادخُلوا على الجبابرةِ البابَ، وباغتوهم بدخولِ الأرض المقدسة (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) فإذا فعلتم غَلَبتم، ونَصرَكم الله تعالى عليهم، والبابُ يحتمل أن يكونَ هو المداخل والمسالك، الموصلة إلى البيوتِ والعمران، وأنهم إذا تمكنُوا منها خارتْ عزائمُ أعدائهم، وغلبوهم، ويحتملُ أن يكونَ هو الباب المعروف، وأن لمدينتهم بابًا وأسوارًا، كما هو الحالُ في كثير من المدن المحصّنة، وأنهم إذا اقتحموا عليهم بابَ المدينة سقطتْ، ثم بعد أن أَمر الرجلان قومَهما بالعمل على الأخذ بالأسباب، وشحذَا همَمهُم لقتال الكافرينَ الجبابرة، وبثَّا فيهم التفاؤل بالنصرِ والغلبة، أرشدَا قومهما إلى أنّ العمدةَ للمؤمنين في النصر على العدوِّ هو الإخلاص، وصدقُ التوجه، والتوكلُ على الله، وما النصر إلَّا من عند الله.

 

[1]) المائدة:19.

[2]) طه: 134.

[3]) الشعراء: 136.

[4]) البقرة: 58 .

التبويبات الأساسية