المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 211- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
– الحلقة (211)

 (وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:189-194].

انتقالٌ مِن أحداثِ السورةِ المتعلقة بالجهادِ والمعاركِ، ووصف أحوالِ المؤمنين والكافرينَ والمخذّلين مِن المنافقين، إلى أمرٍ آخر، فيأتي قوله تعالى (وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تمهيدًا للدعوة المؤكدة إلى التفكر، والاعتبار بخلقِ الله تعالى لهذا الملك العظيم، المذكور في قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كما يأتي، ضمنَ الردّ على اليهود، الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، فبيَّن الله تعالى بطلانَ قولهم بما ينسفهُ مِن أساسه، فإنّ الغنيَّ هو مَن يملكُ السماواتِ والأرضَ، ومِلكُهما وما بينهما هو لله وحدَه، فهو الغنيُّ الحميدُ.

 (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) خَلْق: مصدرٌ يأتي بمعنى المخلوق، فتكونُ إضافته إلى ما بعده بمعنى في، أي: إنّ في المخلوقاتِ في السماواتِ والأرضِ لآيات، أو خَلْق بمعنى الصنعِ والإبداع، فيكونُ على حذف مضاف، على معنى: إنّ [أثر] الخلق للنظام البديع، الذي خلق الله عليه السموات والأرض، وتكون إضافته لما بعده بمعنى اللام، والآية أُكدّت بثلاثة مؤكدات: إنّ، والقسم المقدر، واللام؛ لتلفتَ الانتباه إلى ما تحصل فيه الغفلة كثيرًا، وهو التفكر والتدبر في خلق الله، الذي أتقنَ وأحسنَ كلّ شيءٍ خلقَهُ في السماواتِ والأرضِ، وما فيهما مِن مخلوقاتٍ وعجائبَ وأفلاكٍ، وما في صنعهِ البديعِ فيهما مِن اختلافِ الليلِ والنهار، فإنّ كلَّ ذلك دلائلُ واضحةٌ لأولي الألبابِ، أصحابِ العقولِ الراجحةِ، على وحدةِ الصانعِ، وقدرته، وحسنِ خلقهِ وتدبيره.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ) ذِكرُ اللهِ الكاملُ يكونُ باللسان بالتسبيحِ والتهليل، وبالجوارحِ بالأفعال في العباداتِ البدنية، وبالقلبِ بالتفكر، والوقوفِ عند الأمرِ والنهي، وهذا الأخير هو أعلى مراتبِ الذكر، وقد أثنَى الله على أولي الألباب، الذين يذكرونَ اللهَ على كلّ أحوالهم؛ قيامًا وقعودًا وعلى جنوبِهم، فعمّ الهيئاتِ كلّها؛ وقت القيامِ والشغل، ووقت الجلوسِ والراحة، ووقت الاضطجاع والتهيؤ للنوم، فلا يوجدُ حالٌ للمؤمنِ خالٍ فيه عن الذكرِ (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) مِن شأنِ أولي الألبابِ التأمُّل والاعتبار، الذي يهديهم إلى  تمجيدِ اللهِ وتعظيمهِ والشعورِ بإجلالهِ، فتلهَجُ ألسنتُهم بتنزيهِ الله، والثناءِ عليه بِما يستحقّ، وتمتلئُ قلوبُهم بالخشيةِ والخوفِ منه، قيل لمالك: أتَرَى التفكرَ عملًا مِن الأعمالِ؟ قال: نَعم، هوَ اليقينُ([1])، وسُئِلتْ أم الدرداء: ما كان شأنُ أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر([2])، وفي حديث ابن عباس قال: “بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، أَوْ بَعْضُهُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)”([3]).

(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) يتفكرونَ قائلينَ بلسانِ الحالِ ولسانِ المقال (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) ما خلقتَه عبثًا ولا هملًا، بل كلّ ما خلقتَ لحكمةٍ بالغة، أدركْنا مِن ذلكَ ما أدركْنا، وجهلْنا ما جهلْنا، وجهلُنا به لا يَنقصهُ، ولا يخرجُه عنِ الحكمة (سُبْحَانَكَ)([4]) ننزهكَ، ونقدسُك تقديسًا (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فجنِّبنا عذابَ النار.

(رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي: قِنا عذابَ النارِ يا ربَّنا؛ لأنكَ مَن أدخلتهُ النارَ فقد أخزَيتهُ، فالجملةُ واقعةٌ موقعَ التعليل، والْخِزْي: الإذلالُ والمهانة والافتضاحُ على رؤوس الأشهاد، وهو زيادة على عذاب النار، فهو عذاب أيضًا من نوع آخر([5])، ثم نفى القرآنُ عن الظالمينَ النصرة؛ لأنّ مَن يلحقهُ الإذلالُ على رؤوس الأشهادِ عادةً يطلبُ النصرةَ، فأخبر أنهم لا يجدونَها.

(رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا)([6]) أي: سمعنا مناديًا دعانا إلى الإيمانِ فاستجبنا له، وآمنَّا بك، وبما جاءَ به الرسول.

 (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) تكفيرُ السيئاتِ وغفرانُ الذنوبِ يصحُّ أن يكونَا بمعنى واحدٍ، فيكونُ العطفُ فيه من العطف المرادف، ويصح أن تكون المغفرة خاصة بالذنوب التي بين العبد وربه، وتكفير السيئات يكون للذنوب المتعلقة بحقوق الناس، وتكفيرها سترها، أو أن المغفرة للصغائر والتكفير يكون للكبائر، وعلى هذين الوجهين يكون العطف للمغايرة.

(وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) الأبرار: جمع بَرّ، كصَحب وأصحاب، أي: أحسن خاتمتنا، واجعلنا ملازمينَ بِرّكَ وطاعتَكَ، إلى أن يأتينا الموتُ ويلقانا على ذلك، غيرَ مبدّلينَ ولا مُغيِّرين، واجعلنا في جملة الأبرار الأخيار، لنكون عند الموت منهم، وفي الجنة معهم.

 (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قولُه (رُسُلِكَ) المعنيُّ بهِ رسولُنا محمد صلى الله عليه وسلم، جُمع تفخيمًا لشأنه، أي: ربَّنا لا تحرمنا ما وعدتَ به الأبرار على لسانِ نبيك، وهو الفوزُ بالجنة والنجاةُ من النار، ونسألك العصمةَ مما يفضِي بنا إلى الفضيحةِ والخزي والإذلالِ يوم القيامة، وأعادُوا التعوُّذَ مِن الْخِزْي لشدتِهِ عليهم، فقد يظنُّ الإنسانُ بنفسه الاستقامةَ، والسلامةَ في الدينِ والمعتقدِ، وصواب العمل، فيُفاجأُ في القيامةِ بما لم يكن في الحسبان، كما قال تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)([7]) نسألُ الله السلامة (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) الميعاد: الوعد، فإنك وعدت بذلك وأنت يا ربنا بكرمك لا تخلف وعدك بالجزاء والثواب وإجابة الدعاء، وتكرير النداء (ربَّنا)  في كل جملة من جمل الدعاء المتقدمة، دون الاكتفاء بالعطف وعدمِ ذكرِ (ربّنا)، فيه إشعارٌ باستقلالِ كلِّ طلبٍ عن غيره، وأنه مقصود بذاته، كما أنّ فيه معنى المبالغة في التذللِ والإلحاح على  المولى الكريم، والله تباركَ وتعالى يحبُّ الملحِّين، كما أن تكررَ النداءِ في هذه الآيات باسم الربوبية خمسَ مراتٍ، فيهِ إظهارٌ للحاجة، وتعلقٌ بما في الاسمِ من معاني الرعاية والإصلاحِ للمربوبِ.

[1]) البيان والتحصيل لابن رشد: 134.

[2]) المصدر السابق.

[3]) صحيح البخاري:6215.

[4]) (سُبْحَانَكَ) جملة اعتراضية لتقوية المعنى وتأكيده، وهي مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ: نسبِّحكَ سبحانًا وتسبيحًا.

[5]) ولفظاعته صح ترتب جواب الشرط (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) على الشرط في قوله: من تدخل النار؛ إذ لو اتحدَ الشرطُ والجوابُ لخلا الكلام من الفائدة، فدلّ على أنّ الخزيَ عذابٌ آخر، وعلى أن عذاب النار في ذاته خزيٌ، تُحمل إعادة الْخِزْي في الجزاء على إرادة التفخيم والمبالغة والتهويل، حتى لا يتحدَ الشرطُ والجزاء، من باب قولهم: مَن أدركَ مرعى السعدان فقد أدركَ، ومن سبقَ فلانًا فقد سبقَ، على معنى أنّ مَن أخزيته بدخول النار فقد أبلغتَ في إخزائه، وأخزيته غاية الْخِزْي.

 

[6]) يصح أن تكون أن تفسيرية، على معنى: سمعنا مناديا يقول: آمِنوا، ويصح أن تكون مصدرية، على معنى: سمعنا مناديا ينادي بالإيمان بك.

[7]) الزمر: 47.

التبويبات الأساسية