المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 213- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (213)

 

(لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران:198-200].

(لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) هذا فريقُ المؤمنين الأخيار، في مقابلة الفريق الأول الفجار؛ لذا افتتحت الآية بـ(لَكِنِ) حرف الاستدراك الدال على الانتقال، فالمفتونون من أهل الكفر مأواهم جهنم وبئس المهاد، والمؤمنون المتقون لهم الضيافة والتكريم (نُزُلًا) النزل: الضيافة والقِرى، وما يقدم للضيف من الصِّلة، ويطلق على الموضع نفسه المعدّ للضيافة، ولأنهُ نُزلٌ في ضيافةِ الرحمن، فهو عطاءٌ لا حدودَ له (لِلْأَبْرَارِ) جمع بَرّ: المؤمنُ المطيعُ خلاف الفاجر (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) هو خيرٌ مِن المتاع القليل؛ لأنه كثيرٌ مستمرٌّ دائمٌ، وما ظنكَ إذا كانت هذه الحفاوةُ والضيافةُ معدةً ومدّخرةً عنده للكرامِ الأخيار.

 (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ)([1]) الآيةُ مدحٌ وتنويهٌ بمَن أسلمَ مِن أهل الكتابِ، وحسنَ إسلامُه؛ كالنجاشيّ، وابنِ سلام، ونصارى نجران، وغيرهم مِن أهلِ الكتاب؛ لأنهم آمنوا بالله، ولم يشركوا كما أشركَ اليهودُ بقولهم: عُزير ابنُ الله، ولا كما أشركَ النصارى بقولهم: المسيحُ ابن الله، آمَنوا بما أُنزل إليكم مِن القرآنِ وبمحمدٍ، وبما أُنزل إليهم من التوراة والإنجيلِ، وبموسى وعيسى، ولم يشتروا بآياتِ الله التي أنزلها في كتبهِ ثمنًا قليلًا، كما فعلت أحبارهم؛ يؤمنون ببعضِ الكتاب ويكفرونَ ببعض، ولم يصنعوا كما صنعَ قومُهم؛ يُبدون بعضَ الآيات ويُخفون كثيرًا، ويكتمون الآياتِ ويحرفونَها، يسترضونَ بها أهلَ الأهواءِ مِن العامةِ والحكام، يأكلون بها ثمنًا قليلًا بالرشَى والسحتِ، وفي قوله (خَاشِعِينَ)([2]) تعريضٌ بالمنافقينَ الذين يؤمنونَ رياءً (أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الإشارةُ بأولئكَ إلى مَن تقدمَ ذكرهم ممن آمنَ مِن أهلِ الكتاب، وفي الإشارة إليهم بالبعيد إشعارٌ بعلوِّ مرتبتِهم عندَ الله، هؤلاءِ الذين آمَنوا هم جديرونَ بهذا الأجرِ الموعودِ، كما قال تعالى: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ)([3])، وهو سريعُ الحساب؛ لأنه لا يحتاجُ إلى تأملٍ ولا احتياطٍ، فعطاؤُه سريعُ الوصول، لا يتأخر عن وقته، فيوفيهم من الدنيا نصيبها وعطاءها، وما يدخرُهُ لهم في الآخرة أكبرُ درجات، وأكبرُ تفضيلًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تذكيرٌ للمؤمنين بالثبات والصبر، حتى لا يضعفوا ويدبّ إليهم الوهن، فيفرطُوا  في حقهم؛ لأنّ المعركة مع الباطل قد تطولُ، والابتلاء قد يشتدّ ويستمرّ، ويصابُ الناسُ في الأموال والأنفس، وتهددُ الأوطانُ بالدمار، فتتزلزلُ الأقدامُ، وتحبطُ الهِمم، وتضعفُ النفوس، وتبحث عن المبرر للاستسلامِ للعدوّ، ولمَّا كان الله لا يرضَى للمؤمن أن يعطيَ الدنيَّة مِن نفسه، خاطبَ أهلَ الإيمان بما يبعثُ فيهم الهمة، ويجددُ في نفوسهم الثقة: أَنِ اصبرُوا واثبتُوا، ولا تضعفوا، وإذا كان عدوّهم هو الآخر قد يكونُ كذلك، عدتهُ الصبر، فهم مطالَبون بأمر آخر زائدٍ على الصبر، هو المُصابرة، والمصابرة: المجاهدة للثباتِ على الصبر، والاستمرار عليه، ومقاومة صبرِ العدو بصبرٍ أطولَ منه، فلا يملُّوا حتى يملَّ العدو، والنصرُ صبرُ ساعة، والغلبةُ لمن كان أطولَ صبرًا، كما قال القائل:

سقينَاهُمُ كأسًا سَقَونا بمِثلِها       ولكنهُم كانوا على الموتِ أصْبرَا

والمرابطة: مفاعلة من الرباط، وهو: حماية الثغور في المواقع التي يتسللُ منها العدوّ، والرباطُ بابٌ مِن أبواب الجهادِ، فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)([4])، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم: (عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللهِ)([5])، وجعلَ الله الرباطَ في هذه الآيةِ سبيلَ الفلاحِ.

انتهت سورة آل عمران بحمد الله، فلله الحمد على البدءِ والختامِ.

 

 

[1]) دخلت لام التأكيد على اسم إنّ في قوله (لَمَن) لوجود الفاصل بينها وبين اسمها بالظرف، ويمتنع دخولها من غير فاصل؛ لئلا يتوالى حرفَا تأكيد.

[2]) حالٌ – وهو جمع – من فاعل يؤمن، العائد على معنى (مَنْ) حملًا على معناها.

[3]) القصص:54.

[4]) صحيح البخاري: 2892، .

[5]) سنن الترمذي: 1470، صححه الألباني.

التبويبات الأساسية