المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 103- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (103).

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة:196].

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ) نزلت الآيات في الحديبية، في قصة كعب بن عُجرة، عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أيؤذيك هوامك ؟)( ) ويأتي ذكر حديثه، وإتمام الحج والعمرة هو أمرٌ بإكمالهما لمن بدأهما، فلا يحل فيهما ترك الإحرام بعد التلبس به، والأمر بإتمام شيء لمن بدأه غيرُ الأمر بالشيء ذاته؛ لأنه طلب بالإتيان بصفة مخصوصة من صفات الفعل، لا بأصل الفعل، كما تقدم في قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، وكما في قوله: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)( )، فليس في آية (وأتموا الحج) ما يدلُّ على وجوب الحج والعمرة، وإنما فيها دليلٌ على وجوب اتمامهما على مَن بدأ في الاحرام بهما، ولا شك أن العمرة في هذا الوقت - وقت الحديبية - كانت قد شرعت، وأتى المسلمون بعد ذلك لقضائها، لكن الحجّ وإن اختلف في وقته، فالصحيح أنه شرع بعد ذلك في السنة الثامنة، وقد يكون ذكر الحج في الحديبيةِ توطئةً وبشارة به، وأنّ مكة ستكون لهم، وسيحجون البيت آمنين كما كانوا يحبون، وقوله: (لِلهِ) أي خالصًا، وهذا وإن كان مطلوبا ومشروطًا في كل عبادة، فإن ذكره مع الحج والعمرة كان لِمَا اقترن في ذاكرة أهل الجاهلية، مِن نصب الأوثان على مواضع النسكِ، كما كان الحالُ حول الكعبة والصفا والمروة (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) حصر وأحصر كصدّ وأصدّ، بمعنى: منع وحبس، والمراد به منع المحرم من الوصول إلى أماكن النسك بمكة، سواء كان المنع بعدوٍّ أو مرضٍ، والأكثر في عرف أهل اللغة استعمال حَصَرَ الثلاثي في منعِ العدوِّ، وأَحْصَر في منع المرض ونحوه، والآية محمولة عند كثير من أهل العلم - ومنهم مالك - على حصرِ العدوِّ؛ لقوله تعالى عقبها: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) ولنزول الآية في الحديبية في منع العدوِّ، ومنهم من حملها على المرض؛ لأن أحصر الرباعي الأكثر استعماله في المنع بالمرض (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) استيسر: تيسر، السين والتاء فيه للمبالغة، كاستصعب واستفحل، وليستا للطلب، والهدي جمع هدْية، كجَدْيٍ وجَدْية، ويقال هدِيّ وهدِيّة، كمطِي ومطيّة، هو ما يذبح من النعم في حج أو عمرة تقربًا إلى الله تعالى، وجملة (فَمَا اسْتَيْسَرَ) جواب إن الشرطية، أي: فإن أُحصرتم فاهدوا ما تيسر من الهدي، للتحلل من الإحرام، بذبحِ أو نحرِ ما أمكن من أنواع الهدي، بدنة من الإبل أو البقر، أو شاة، والآية لم تذكر قضاء النسك على من أُحصر، وهي حُجة لمن ذهب إلى عدم وجوب القضاءِ - ومنهم المالكية - على مَن أحصر بالعدو، كما هو قولهم في هذه الآية (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ) أُمر المحصرُ بالهدي، ثم نُهي عن فعل ما ينافي الإحرام، حتى يبلغ الهدي محله؛ ليبقى المحرم على حاله من الشعث، وذكر الحلق دون غيره من أوجه الترفه الأخرى؛ لأنّ الآية نزلت فيمن دعته الحاجةُ إلى حلق رأسه مِن أذى لحقه في رأسه، ففي حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ)( ).
(حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) المحِلّ بالكسر مِن حلَّ يحِل بالمكان، بكسر الحاء، إذا أقام، ويطلق المحل على مكان الحلول وعلى زمانهِ، ومنه محلّ الدَّينِ وقت حلول أجلهِ، وبلوغ الهدي محله هو ذبحه للفقراء، إمّا في المكان الذي حبس فيه المحصر، وهو قول جماعة من أهل العلم، ومنهم مالك والشافعي، أو محل ذبح الهدايا المعتاد، وهو مكة ومِنى، وعليه بعض أهل العلم، ومنهم أبو حنيفة (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) أذِنت الآية للمريض مطلقًا أن يترخص، بتركِ ما يشقّ عليه من واجبات الإحرامِ، إذا احتاج إلى ذلك، ثم ذكرت بالخصوص أذى الرأس، الذي كان سبب نزول الآية.
(أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) الأذى: الوسخ والقمل، سمّاه القرآن أذًى بُعدًا عمّا هو مُستكرهٌ من الألفاظ كالوسخ ونحوه، ومِن للابتداء، أي: أذًى مصدرُه الرأس (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) جواب الشرط، و(مِنْ) بيانية، لبيان أنواعِ الفدية، والمعنى: فمَن كان مريضًا أو به أذًى في رأسه، وفَعلَ ما ينافي الإحرامَ، مما يكون قد احتاجَ إليه، كالحَلق ولبس الثياب؛ فالواجب عليه فدية كفارة عن الترفهِ، الذي رُخص له فيه، تكونُ بواحدٍ من ثلاثة أنواعٍ على التخييرِ، الأولُ: صيامُ ثلاثة أيام، والإطلاق في طلب الصيامِ يدلُّ على صحة صيامِها متتابعةً ومتفرقةً، وفي أيّ وقتٍ أو مكانٍ وقع الصوم، في مكة أو بعد الرجوع إلى البلد، والنوع الثاني ذكره بقوله (أَوْ صَدَقَةٍ) وقد أجمل الصوم والإطعام في الآية، وبَيَّنَ حديثُ كعب بن عجرة المتقدم مقدار الصيام ونوع الإطعام وكيفيته، بأنه صيام ثلاثة أيام أو إطعامُ ستةِ مساكين، لكلّ فقيرٍ مُدّان، نصفُ صاع، والنوعُ الثالث (أَوْ نُسُكٍ) أصل النسك: العبادة، والمراد: الذبيحة التي يتقرب بها إلى اللهِ، ويدخل فيها الفدية والأضحيةُ والهدي، والإطلاق في نسك الفدية، يدلّ على أنه يجوزُ لمن لزمته ذبحُها في مكةَ وفي بلده، بخلافِ الهدي، فقدْ قيده القرآنُ بقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الكعبةِ)

التبويبات الأساسية