المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 88 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (88).

 

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:165-167].

 

 (مِنَ النَّاسِ) خبر مقدم، ومَن يَتَّخِذُ مبتدأ ، ومِن للتبعيض، وتقديم الخبر أفاد التعجب والتحير من حال من يتخذ الأنداد لله (مِنْ دُونِ اللهِ) يترك إفراد الله بالعبادة، ويجعل له تبارك وتعالى (أَنْدَادًا)، والندُّ: المثل، والمراد الأصنام، أي: يتخذ أمثالا لله  من الأصنام، ينشغل بهم، ويشركهم مع الله في العبادة (يُحِبُّونَهُمْ) جملة حالية من فاعل يتخذ، وضمير الجماعة في يحبونهم راجع الى الأصنام، ولعبادتهم إياهم أجريت في الضمير مجرى العقلاء، والمحبة: الميل إلى ما تستحسنه النفس من المعاني والمحسوسات، فما تستحسنه النفس من المعاني والمعقولات؛ كالسجايا الجميلة والصفات الحميدة والقيم والمعاني الرفيعة، ومِن ذلك محبة الله سبحانه وتعالى لكمالاته وصفاته وأسمائه الحسنى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم لهدايته الخلقَ بالرسالة والوحي، ومنه أيضا ما تميل إليه النفس من المحسوسات، كالمسموعات والمرئيات (كَحُبِّ اللهِ) مصدر مضاف إلى المفعول، أي: يحبونهم محبة مساوية لمحبة المؤمنين الله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ) جملة اعتراضية للتنويه بحال المؤمنين، فمحبة المؤمنين لله أدوم وأرسخ وأقوى، مِن محبة المشركين لأصنامهم (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا) (لو) أداة شرط، حرف امتناع، يمتنع جوابها لامتناع شرطها، والغالب في شرطها - كما هو في شرط (إذْ) - أن يكون في الماضي، كما في قوله سبحانه وتعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ)([1])، ويقل دخولهما على المستقبل المتمحض للاستقبال كما هنا، وسوغ دخولهما على المستقبل تحقق وقوعه، حتى كأنه وقع، وفي (يَرَى) قراءتان بالتاء وبالياء، فعلى قراءة التاء الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى منه الخطاب؛ لأن كل من يسمعه لو رأى، سيصيبه الذهول من هول ما يرى، و(الذين ظلموا) مفعول، وعلى قراءة الياء (الذين ظلموا) فاعل، والرؤية بصرية، و(الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم الذين اتخذوا من دون الله أندادا، واستعمال الظاهر (الذين ظلموا) بدل ضميرهم ليحق عليهم الوصف بالظلم، ذمًّا وتقريعًا لهم، وليعم الحكم كل من وصف بالظلم، منهم ومن غيرهم،  وجواب لو محذوف لقصد التهويل، ويكون المعنى: ولو ترى الآن حالهم، حين يرون العذاب يوم القيامة، لرأيت شيئا مهولا فظيعًا، ولا أحد يملك لنفسه يوم يواجه العذاب شيئًا، فالقوة كلها لله وحده.

و(إِذْ) ظرف زمان بمعنى إذا؛ لأن إذْ موضوعة للماضي، وإذا للاستقبال (يَرَوْنَ الْعَذَابَ) يبصرون العذاب بأعينهم (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا) الجملة بدل اشتمال من العذاب، و(جميعًا) تأكيد للقوة، والمعنى: فعذابهم الشديد واستسلامهم له حين يواجهونه، ينبئك أنّ جميع جنس القوة لله وحده، ولا اعتداد بقوة غيره.  

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ).

 (تَبَرَّأَ) تنصل وابتعد، وجاء الفعل بصيغة الماضي لتحقق وقوعه، ومعناه للمستقبل؛ لأن هذا التبرُّؤَ يقع يوم القيامة، عند معاينة الأسباب (اتّبَعُوا) هم العامة والضعفاء، الذين يكونون تَبعًا لغيرهم، وينقادون لرؤسائهم (اتُّبِعُوا) الرؤساء والسادة المطاعون من العامة، أي: أُذكروا حين يتبرأ ويبتعد كل رئيس من مرؤوسه، ولا يتحمل شيئا من آثامه وأوزاره، ولا يغني عنه شيئا من عذاب الله (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) الجملة حالية مع إضمار قد، والحال أنهم قد رأوا علامات العذاب، وأيقنوا أنهم مواقعوه (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) الباء للملابسة، والأسباب جمع سبب، أصله الحبل (الوُصلة) الذي يصعد به إلى النخلة ونحوها، استعير لما يتوصل بمصاحبته إلى المقصود، فانقطاع السبب الذي كانوا يعلقون نجاتهم عليه، معناه هلاكهم المحقق.

(وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) (الكَرَّة) الرجوع إلى المكان، ومرادهم الرجوع إلى الدنيا، و(لو) للتمني، والتمني طلب ما لا طمع فيه، تمنى الضعفاء الذين جرهم السادة في الدنيا إلى الضلالة، وتبرؤوهم منهم حين معاينة العذاب - وكأنهم لم يعرفوهم، ولا سمعوا منهم كلاما - تمنى الأتباع أن يكون لهم رجوع إلى الدنيا؛ ليعصوا أمر كبرائهم، ويشفوا صدورهم منهم، فلا يستجيبون لهم، ويتبرؤون منهم، ويتركونهم، كما تركوهم حين يرون العذاب (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) (كَذَلِكَ) الإشارة للتفخيم والتهويل، واستمرار الحال الشديدة الأولى عليهم، وهذا التهويل هو من نمط الإخبار عن المبتدأ بلفظه أو بمرادفه، أي: كتلك الإراءة الفظيعة (يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم)، ومنه قول أبي النجم:  شِعري شِعري، وقولهم: السفاهة كاسمها (حَسَرَاتٍ) منصوب على الحال، فعله حَسِر كفرح، بمعنى الكشف والظهور، والمفرد حسرة، الاسم منه مفتوح العين في الجمع، كتمْرة وتمَرات، وجفْنة وجفَنات، وتسكن عينه في الجمع إن كان وصفًا، كضخْمة وضخْمات، وعبْلة وعبْلات.

والحسرة: التلهف والحزن والندم الشديد على ما فات، عندما ينكشف لهم الأمر، ويرون عواقب أعمالهم، والآية تصور حالة اليأس، التي تلازم أهل الضلال والكفر، أي: هذا هو حالهم، مثل ما رأيتم من التنصل والتبري، مع التأكيد على أن تبري بعضهم من بعض لا ينفعهم شيئا، ولا يشفي لهم غليلا، فهو نفثة المصدور، لا يقدر على شيء إلا أن يظهر الحسرة والندم، أما عن مصيرهم فقد جاء التعبير عنه (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) بالجملة الإسمية، ولم يقل وما يخرجون؛ ليدل بالأسمية المفيدة الدوام على أن الحكم عليهم بالنار ثابت، ومن صفاتهم التي لا تنفك، وتقديم المسند إليه (هُمْ) أفاد اختصاص نفي الخروج من النار بهم دونَ غيرهم، كما أفاد الاختصاص في قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)([2]).

 

 

[1]) التوبة: 47.

[2]) هود: 91. 

التبويبات الأساسية